الجمعة، 16 مارس 2012

أعراس الشفق قصيدة للدكتور صابرعبدالدايم قراءة نقدية د.نادرعبدالخالق



 
ملامح من شعر المقاومة
أعراس الشفق للدكتور صابر عبدالدايم
 دراسة تطبيقية
                                                        الدكتور نادر عبدالخالق
المقاومة خصوصية من خصوصيات التعبير الأدبى التى شغلت حيزا كبيرا من مساحة الإبداع فى العصر الحديث على مستوى الشعر والقصة والمسرحية والمقالة، ويرجع ذلك إلى طبيعة الشخصية العربية، وإلى تكوينها الثقافى والمعرفى، وإلى تاريخها الطويل فى التعبير بالكلمة منذ العصر الجاهلى،واعتزاز العربى بنفسه وقبيلته ومأثوراته وقيمه وعاداته وتقاليده، حتى جاء الإسلام دينا وشرعا ومنهجا ومنزلة أدبية ومعنوية وحضارة إنسانية عامة، يعلى من شأن الفرد والجماعة، وكانت الكلمة المنظومة إحدى أسلحة الدعوة فمن منا لايذكر حسان بن ثابت وشعره فى الدفاع والمقاومة وقول الرسول صلى الله عليه وسلم له : أهجهم ياحسان وروح القدس تؤيدك .
 منذ ذلك الحين أصبحت الكلمة والتعبير والاعتراض والمقاومة واستنفار الهمم وشحذ النفوس فى أوقات الحرب والشدة سلاحا قويا وعقيدة راسخة فى وجه الطغاة وفى وجه العتاة، ومنذ هبوب غارات الزحف الصليبى ومحاولات اجتياح المدن والبلاد الإسلامية، أصبح شعر المقاومة يؤدى دورا فعالا، فى تنمية الشعور الوطنى والحماسى، وفى رصد البطولات والأمجاد التى حققها المسلمون فى صدهم لمطامع الغرب .
وفى العصرالحديث اتجه شعر المقاومة نحو حركات التحرر التى انشغل بها العربى وظل يكافح من أجلها كثيرا، فى ظل وجود الاجتياح الامستعمارى للدول العربية لفترات طويلة منذ مطلع العصر الحديث، ومنذ أن ضعفت السيادة العربية وتفرقت الأمة، وأصبحت البطولة والفداء رمزا وحلما بعيدا، وفقد العرب والمسلمون زمام الأمور فى أوطانهم،وأصبحت الرغبة فى التحرر محورا من محاور القصيدة العربية المعاصرة، واستلهم الشاعر المعاصر أمجاد الماضى وبطولاته .
وقد زاد من ذلك وجود الكيان الصهيونى الإسرائيلى على أرض فلسطين، وقد ابتلع الأرض والوطن، وعمل على تزكية العداء والفتنة والتفرقة بين الشعوب العربية،حتى يضمن لنفسه البقاء والاستمرار طويلا، من هنا فقد اختص الشاعر المقاوم ببعث الماضى والتراث العربى البطولى، والبحث عن البطولة والفداء، وتمجيد الثورة والجلاء والاستقلال، خاصة أن المقاومة لم تقف عند حدود العدو الخارجى الظاهر فقط، وإنما امتدت لتشمل العدو المستبد فى الداخل، والعمل على إزاحته ومنعه من مواصلة مسيرته التعسفية، التى خلفت ورائها كثيرا من التراجع والتهاوى فى ظلام الجهل والفقر والتخلف المادى والمعنوى .
 ولأن حركة المقاومة الأدبية تتعين بفعل الأدب وانفعاله بالحركة الخارجية العامة وعملية التمثيل والاستنباط لخصائص الاتجاه الوطنى المباشر وحركة الحياة الثقافية، فإن الشاعر المقاوم عمل على التعبير من خلال النزعة الإنسانية، التى يخاطب بها النفس، ويستقطب بواستطها القدرالهائل من الدعم والتوجيه والمشاركة، للقضية التى يطرحها، والتى يسعى من خلالها إلى نشر الفكرالبطولى، والحد من هيمنة الفكر المقابل، وذلك فى ظل التراجع الكبير فى مجالات الحياة التى كانت تأخذ مظاهرعدة فى التوحد لنشرهذا الفكر وبث الوعى، وإيجاد المناخ الخصب لذيوع هذا اللون من الأدب الإنسانى المقاوم.
 واعتقد أن الشاعر المقاوم حاليا لم يعد أمامه سوى الكلمة الشعرية ودورتها حول معادل موضوعى شامل، يضمن لها الذيوع والانتشار، ويؤكد على حقيقة الهدف البطولى واستمراريته، وعدم تراجعه أووقوفه عند منحدر تعبيرى خاص، فى ظل وجود حركة إعلامية ورقابية شديدة لاتقف عند النزعة الأولى، بل تمتد لتقوم بعمليات تأثير متواصلة مع حركة الحياة الجديدة، وفى ظل وجود مشاكل اقتصادية وسياسية واجتماعية تجعل حركة المقاومة فى منأى من التقدم والتواصل .  
والمتأمل فى حركة المقاومة الأدبية يجد أنها أفرزت توجها خاصا بها، وأفرزت شعراء مستقلين،مما يجعل شعرالمقاومة من خصائصه الاستمرارية والتجدد، ومن سماته العامة الانصهار فى القضية القومية والوطنية، والتعبير الدائم عن وجود الإنسان وذاتيته، وهو فى كل ذلك يحتاج إلى التكثيف فى المضمون ويحتاج إلى استيعاب قضايا الحاضر، واستلهام بطولات الماضى وأمجاده .
وهولايختلف عن شعرالنزعة القومية التى واكبت حركة المد الثورى فى مصر، والتى كانت فى مجملها متعلقة بالوحدة العربية كمرحلة هامة من مراحل المقاومة الشعبية الجماعية،التى لا تقف عند حدود المواجهة المباشرة، بقدر ما كانت تساهم فى بناء نهضة سياسية تقف فى وجه الغرب، وفى وجه إسرائيل وتوسعاتها الاستيطانية العدوانية .
وقد انشغل الشاعر بعمليات المد الثورى منذ مطلع القرن الماضى حتى بلغ الذروة فى منتصفه خاصة بعد نكبة فلسطين، وبعد انهيار القومية العربية بداية من نكسة يونية 1967م، وتوحد الشعر العربى الثورى القومى والوطنى والبطولى، فى ملمح واحد واتجاه عام، وهو الدفاع عن حقوق المسلمين، واستنهاض الهمم،فى الوطن العربى والإسلامى الكبير، وتلك خصوصية من خصوصيات التعبير المقاوم الذى لايقف عند حدود جغرافية فاصلة، بل يمتد ليشمل البلاد الإسلامية والعربية المنكوبة، التى يعانى أصحابها من الظلم والاستبداد .
من هؤلاء الشعراء المجيدين والمخلصين لدينهم وعروبتهم وأوطانهم وإنسانيتهم، الشاعر العربى المصرى المعاصر الدكتور صابر عبدالدايم، الذى أثرى المكتبة العربية وديوان الشعر العربى بالعديد من القصائد والمطولات والدواوين،التى تسير على نهج القصيدة المقاومة التى بدأها حسان بن ثابت، وأطلقها حقيقة راسخة فى وجه الشرك قديما .
من ذلك ديوانه " مدائن الفجر" والذى يضم مجموعة من القصائد، التى أطلقها الشاعر صرخة مدوية، فى وجه الظلم، ونداء قويا يجمع صفوف المسلمين والمحاربين، ويقدم المثل الأعلى للجهاد والنضال والمقاومة، من هذه القصائد : "واإسلاماه"، "ونقوش على جدار المسجد الأقصى"، "والشهيد"، و" أعراس الشفق" ، وغيرها .. من القصائد التى تعبر عن نزعة إيمانية ووطنية وإنسانية، استلهم فيها الشاعر العديد من عناصر البطولة والمقاومة، وتأتى قصيدة " أعراس الشفق " بروعتها واستلهامها العديد من الأفكار والموروثات، وبعثها فى أحداث معاصرة، كوقفة تأملية ونزعة بطولية، ملحمة شعرية تستدعى الدرس والتحليل الأدبى والنقدى .
النص (1)
مالت إلى الغرب المآذن
ودم الأهلة فى المساء يقيم أعراس الشفق
وتصدعت رؤيا النبوءات العقيم
ويطل أحمد فى يديه الآى والذكر الحكيم
يلقى إلينا نار آيات القتال
يتلو علينا سورة المجد الكليم
صوت المآذن فى سراييفو تجمد
وإلى ربا الفردوس
قد صعد ت عناصر أمة
لتعود بالقرآن كونا قد توحد
كل المحاريب انتفاضة أمة تهوى محمد
كل الدماء حدائق
تهدى عطاياها محمد
2- الشيخ كالطود الأشم
يطل من برك الدماء
يهل فى ثوب الإباء
سيف العقيدة فى يديه يحز أعناق الطريق
أمام من يلقى الصخور
على ضياء القبلتين
تنمو بعينيه الحقول المثمرات
أنا النبى لا كذب أنا ابن عبد المطلب
والطفل ينفض عن جناحيه الموات
يصير شمسا فى نداء المصطفى الأتى
بإحدى الحسنيين
والشيخ فى سراييفو فتى
يتسلق الجبل المسافر فى منارات الفداء
ويشب فى قلب اللهيب لواء ثأر
يستوى غصنا من النار
الحياة تدب فى أوراقه
هذى سراييفو تزف إلى السماء
وتحتمى بالعرش
تدخل ساحة الملكوت
تقهر سطوة الرهبوت
تهدم سدة الطاغوت
ترفع فى سماء الله قصة امة
وهبت ألى القرآن كل زمانها
سكنت هويتها ذرا إيمانها
دفنت نفايات الهزائم فى ضحى أحزانها
والخيل خيل الله تركض فى صدى أشجانها
ودماؤها تغلى
وما يبست على جدرانها
رسمت على الطلل الموحد
صورة الوحش البدائى
استحال الصرب فى فكيه جنا كافرا
بالله والإنسان والكون الضئ بشمس آيات المحبة
وعلى الشوارع و النوافذ والزوايا
فى سراييفو الجماجم شكلت سحب الدماء الداكنة
شادت من الأشلاء مئذنة وقبة
هى لم تزل حبلى بماء النار
فيها تستثار أجنة الشهداء
حين مخاضها مطر الحياة يهل
يصرخ
والوليد بحجم هذا الكون
يحمل فى اليمين شموس توحيد وميلاد العقيدة
وعلى اليسار تضوع أقمار الوجود
وتولد الدنيا الجديدة
وتعود تصهل فى سراييفو المآذن تلتقى
بالعاديات ضبحا
والموريات قدحا
وتثير نقع الفتح تشهد ضوء خيل الله صبحا
ويطل أحمد فى يديه الآى و الذكر الحكيم
ويبث فى يبس الشرايين الإرادة
نبض آيات الجهاد
يتلو علينا سورة المجد الكليم
وعلى يديه الراية الخضراء تطعن كل شيطان رجيم
وإلى ربا الفردوس كل قوافل الشهداء
كالأشجار تصعد
لتعود بالقرآن كونا قد توحد
كل المسافات انتفاضة أمة تهوى محمد
كل الدماء حدائق
تهدى عطاياها محمد
2- العنوان :
يعد العنوان من أهم محاور النص الأدبى الذى يعطى بعدا اكتنازيا دلاليا،لايقف عند وظيفته الإدراكية الأولى كعتبة تقود القارىء حتميا إلى ما بعدها مباشرة،بل يشمل عدة توصيفات أهمها أنه صورة مصغرة تحتوى فى داخلها النص،وتشير إلى أجزائه وتراكيبه المختلفة، وأنه الدافع الأول للقارىء للدخول إلى عالم الشاعر وتجربته الموضوعية ومتابعة صوره المتعاقبة،وهو كذلك من عوامل ضبط الإيقاع التصويرى للنص، حيث ينطلق منه الشاعر بداية، ويسير وفق محاور تتوالد وتتنامى نتيجة لتشكيل الفكرة الأولى التى يتمخض عنها ويدور فى فلكها  .
وفى قصيدة الدكتور صابر عبد الدايم " أعراس الشفق" يتمتع العنوان بخصوصية تعبيرية ذات أثر بعيد فى تكوين القاسم المشترك بين القارىء والنص، وبين الفكرة وتداعياتها وانتقالاتها من الدلالة الرمزية والبلاغية إلى حقائق موضوعية وعلاقات أسلوبية تكتنز بأسرار الفعل المقاوم، ومن ثم يصبح العنوان من العناصر التى جاء توظيفها جديدا ومغايرا حيث لاينتهى بقراءاته الأولية، ولايقف مده عند الانتهاء من الصورة الأخيرة فى النص، فهو وحدة مستقلة بذاتها ينهل منها النص،عبرصوره المتعددة الكلية والجزئية،ويتواصل عطائه دون أن ينفذ، ودون أن ينتهى حواره الداخلى، وذلك لوجود تركيب بلاغى انحرافى يشمل المتخيل النفسى والمعادل الموضوعى للفكرة الحقيقية المباشرة التى يتقابل معها البعد التصويرى القائم على جدلية التشبيه والاستعارة ووظائفهما العديدة .
والمتأمل فى الدلالة اللغوية لجملة " أعراس الشفق" يجد أن كلمة أعراس وردت فى الصيغة الجمعية المباشرة ذات الدلالة الواضحة، " والعروس" نعت يستوى فيه الرجل والمرأة ما داما فى إعراسهما، يقال رجل عروس، ورجال عُرُسُ بضمتين وامرأة عَرُوسُ ، ونساء عَرَائِسُ، والعِرسُ بالكسرامرأة الرجل والجمع أعرَاسُ.
والعُرسُ : بوزن القفل طعام الوليمة يذكر ويؤنث وجمعه أعراسُ وعُرُساتُ بضم الراء، والعِرَّيسُ والعِرَّيسَةُ : مكسورتين مشددين مأوى الأسد "   (2) 
الدلالة اللغوية المباشرة للكلمة تنفتح على عدة علاقات تشيرإلى بناء تصويرى متشعب يحتوى فى داخله عدة اتجاهات منها مايعودعلى ضميرالشاعر، ومنها ما يعود على عملية التقريب التى يجب أن ينفعل بها النقد التحليلى، ومنها ما يتعلق بالمعنى الدلالى المباشر الذى يوحى به النص المصغر مباشرة،وهوهنا أشد عمقا ودلالة من التقريبات الموضوعية الأخرى، ولك أن تتخيل معنى " العرس" ودلالته المعروفة ، ومعنى الوليمة واستعارتها وبناء معادل موضوعى ومتخيل نفسى خارجى، يبحث عن ثمة مقاربة بين الاستلهام والحقيقة والمباشرة، وكذلك معنى المكان ودلالته الرمزية التى تتعلق بالمرجعية البطولية، حينما ترتبط اللفظة مباشرة بمأوى الأسد كمكان ونقطة انطلاق وتجمع، تشيرإلى عدة استنباطات نفسية ومعنوية ورمزية تتعلق بالموضوع والقضية .   
الشفق: بقية ضوء الشمس وحمرتها فى أول الليل إلى قريب من العتمة، وقال الخليل: الشفق الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الأخير، فإذا ذهب قيل غاب الشفق، وقال الفراء: سمعت بعض العرب يقول : عليه ثوب كأنه الشفق وكان أحمر، والشفقة الاسم من الإشفاق وأشفق عليه فهو مشفق" (3)
والدلالة اللغوية للكلمة وتعبيراتها تشير إلى عدة صور اكتنزتها الفكرة الموضوعية والدلالة التصويرية، منها الصورة البصرية اللونية ذات التركيب الرمزى، الذى يشير إلى وجود الزمن وإلى التحليق فى العتمة والظلام كدلالة نفسية حقيقية، تنفعل بها الصورة وتحمل فى طياتها العديد من التأويلات، فهى (صورة ورمز وظلام) الصورة تكمن فى التركيب الكلى الاستعارى، والرمز دليل على محاولة الشاعر جذب وبناء العديد من الأفكارالتى تساعد فى احتمال تجربته وتمثيلها، والظلام حالة من الاستقرارالتى يشيرإليها النص، ويود الخروج من دائرتها، وذلك كله يؤكد على أن العنوان هنا حالة استدعاها الشاعر، أراد من خلالها التنبيه إلى الفكرة والصورة الخارجية التى يمور بها الواقع .
كذلك الزمن وتماوجه وانحساره فى وقت الشفق بداية من الغروب حتى وقت العشاء، يشير إلى فرضية خاصة جدا، تتعلق بوداع النهار واستقبال الليل، وما بينهما من تفاوت واختلاف، فى الدلالة والرمز، وحقيقة الانحراف الموضوعى، عندما ننسب العرس إلى الشفق، كتوصيف استعارى تشبيهى، يقوم ببناء علاقة نفسية وموضوعية عميقة، تقدم البعد المتصارع فى الصورة، وتقدم انفعال الشاعر فى تجربته وفى تمثيله للمعادل الموضوعى والمتخيل النفسى المدرك .
كل ذلك يشير إلى أن العنوان بوحدتيه اللغويتين، هو بداية لتقديم ملحمة موضوعية شعرية تتآزر معها الفكرة والصورة الخارجية والداخلية، وهذه الملحمة تتعين بتعيين البعد التراثى للتمثيل الثقافى الذى يشيع فى العنوان عندما نقف على حقيقة المواجهة بين الشفق كدلالة زمنية رمزية، وبين حقيقة العرس، مما يجعل الاستفهام والتفسيرعلاقات يقدمها التصوير، حول الدال والمدلول، وحول التقريب القائم على الفرح والسرور، والرحيل والغروب من زمن النهار، إلى زمن الليل والعتمة، وغير خاف ما بين الزمنين من اختلاف وتفاوت موضوعى ورمزى بعيد، لايمكن تأويله إلا بالبحث عن الأسباب التى أدت إلى ذلك.
وتشير الدلالة الزمنية إلى وجود علاقة أخرى لاتبعد عن تمثيل الحقيقة التى يود الشاعر إزاعتها، وهى تتضمن معنى المكان والقوة واستحالة الاقتراب، وتلك دلالة استعارية وتشبيهية بعيدة الأثر فى تكوين الصورة، وبناء العلاقة الرمزية التى تتعين فى حقيقة الليل ثم تعود من جديد مع النهار .
وللدلالة البنائية النحوية تأويلات لاتبعد عن ذلك فالتركيبة الاسمية للجملة تشير إلى حالة الثبات والاستقرار التى تتصف بها الجملة، وذلك يخالف الحقيقة الملحمية التى تقدمها الصورة،حيث الانتقالات الزمنية والنفسية والموضوعية، التى كانت بمثابة الإيقاع التصويرى للنص المصغر، والتى تعتمد على البناء والإشارة إلى الفعل المستتر، وإلى الحوار الداخلى للنص والصورة، مما يجعل عملية التقابل بين النص وأجزائه قد تحققت، ونتج عنها عدة أفكار وخيالات  .
والمتأمل فى الحالة البنائية يجد أن العنوان جملة خبرية، ذات علاقات وانفعالات موضوعية ورمزية، فالمبتدأ نفسه علاقة تقديرية مستقلة بذاتها، وكذلك الخبر علاقة مستقلة هى الأخرى، وتوحد هاتين العلاقتين يجعل الانفعال بالنص خبرا أكيدا،ويجعل الدخول فى عالم النص قائم على أساسين الأول: أن العنوان بوحدتيه خبرا،وهو أيضا علاقة أحادية ابتدائية، النص خبرها، وهو كذلك علاقة تقوم على تقدير لمبتدأ محذوف يمكن تسميته باسم إشارة أو ضمير شأن وقصة، فتكون الملحمة الموضوعية الشعرية، "هذه أعراس الشفق" و" هى أعراس الشفق"، ومن بين الدلالة الإشارية والضمير ، تبدو عوالم بعيدة من التحليل والتأويل قد فرضها النص المصغر، بالإضافة إلى الملمح الإضافى الذى يعد بعدا استعاريا مستقلا يمد النص والفكرة بالعديد من الدلالات والرموز .
منها أن الخبر فى الجملة الاسمية صفة دائما ، وهو مسند، والمبتدأ مسند إليه، وذلك من أجل قيام علاقة يتضح بها المعنى، ويقوم عليها البناء النحوى، وهذا يشير إلى تعيين الاستعارة التى تكون دائما فى لفظ الخبر، وهذا يوضح علاقة غير الملاءمة التى تضم المسند والمسند إليه، المبتدأوالخبر، تأمل معى هذا التركيب:
" أعراس الشفق" خبر لصورة مركبة، والعلاقة بينه وبين المبتدأ هى انحراف وعدم ملائمة، فى الدلالة والبناء المعنوى، لكنه يقود إلى حقيقة التجربة لدى الشاعر، ويشير إلى تركيب الصورة وإيقاعها وبنائها لدلالات تسير وفق حالات النص وأفكاره :
1- أعراس        =  فرح وسرور ودلالة إنسانية حركية بنائية
2- الشفق         =  توصيف استعارى ومركب تصويرى متعدى
3- صورة خارجية =   حوارداخلى وصورة ملحمية داخلية
4- صورة داخلية   =    قراءة خارجية واستلهام تاريخى واقعى
5- حوار داخلى    = حكى قصصى قائم على تداخلات الصورة البصرية اللونية
النتيجة : وجود علاقة قائمة بين المعنى الدلالى وبين المعادل الموضوعى، الذى يتيح عملية التأويل ويفرض عدة قراءات تشكيلية، تفتح النص على عالم من الحكى والقص الرمزى المتداخل، وتصف تأملات الشاعر وتجربته النفسية والبطولية، وعلى ذلك فإن النص المصغر الذى يتضمنه العنوان، يقوم على تقابلات منطقية عند تأويلها، غير ملائمة فى طبيعتها الخارجية
                    1-  أعراس الشفق = (صورة خارجية) (إضافة)
ــــــــ + ـــــــ
  إضافة    = صورة داخلية ( استعارة)
توضح كثيرا من التفاوت بين النكرة والمعرفة وبين الدلالة الاستعارية للمضاف إليه، وتلك السمة الرمزية تقود النص المصغر إلى مجموعة حقائق أهمها، الوقوف على العلاقة بين الحوار الداخلى وبين الصورة الكلية المركبة وبين الحكى القصصى الذى يشيع فى النص العنوانى المصغر، والذى يمكن توضيحه من خلال التركيب التالى:
2- حوار داخلى  + صورة بصرية لونية = حكى قصصى
               ـــــــــــــــــــــــــــ             
               أ-  ملامح التجربة       ب – تكوين الصورة الكلية
أنت تلاحظ أن دلالة الحوار النفسى الداخلى تشير إلى تفسيرات الصورة والنص، وتقود إلى تعيين الحقيقة التى تمثلها التجربة الشعرية وهى فكرة المقاومة الموضوعية والتأويل التاريخى لها فى واقع النص المعاصر،وقياس الحقيقة التاريخية على أهداف الواقع المعاصر، ومن ثم الوصول إلى مركب جدلى يربط بين دلالة الماضى وحقيقة الحاضر فى نمذجة المقاومة تاريخيا وأنسنة النضال فى ظل تهاوى وتردى الضمير الخارجى، مقابل يقظة الوعى الإبداعى الحقيقى الإنسانى المعاصر الذى يمثله الشاعر، ونخلص من ذلك كله إلى ان الصورة النفسية لتركيب أعراس الشفق" هى المعول الرئيسى الذى استدعاه الشاعر، وقدم من خلاله رؤيته لهذا الصراع، وهى رؤية تنبؤية حقيقية قائمة على عقيدة ثابتة من أصل الإيمان وراسخة من رسوخ الحق واليقين، وهى صورة للواقع الحى فى سراييفو، القتلى هناك تشبه لحظات الغروب عند رحيلها فى عرس من النور الذى يمكن أن تراه، وتعجب من جماله .
3-النص :
النص الأدبى بنية من العلاقات التركيبية التى تؤدى وظيفة بلاغية معقدة تقوم على فكرة التصوير وتعتمد على مخاطبة الوجدان والعقل معا،هذه البنية الدلالية " تنتجها ذات "فردية أو جماعية" ضمن بنية نصيّة منتجة، وفي إطار بنيات ثقافية واجتماعية محدّدة" (3). وتلك الخصوصية تجعل من النص الأدبى قيمة نفسية وموضوعية ترقى وتتمايزعن غيرها، وتصبح محلا للنظر والتوصيف فى ظل معطيات الفكرالتصويرى،الذى ينطلق منه النص، ولعل ذلك يجعل فعاليات النص لاتقف عند رؤية قرائية واحدة، بل تتسع لتشمل أزمانا مختلفة، وأفكارا متعددة، مما يؤدى فى النهاية إلى تأويلات عديدة، يمكن بواستطها أن ينفتح النص على قضايا مختلفة فكرا وثقافة، من هنا فإن تقسيم الصورة عملية بنائية تقوم على القراءة والاستنباط وتقديم المكون الثقافى للنص، وتقوم على استلهام التجربة الموضوعية للشاعر . 
4- الصورة الافتتاحية :
الصورة الافتتاحية فى النص الأدبى عامة تقوم على فكرة الشاعر وعرضه المباشرلبناءات النص، وانتقاله من زاوية العنوان إلى ترجمة هذه البناءات كمااستدعتها التجربة، وفى النص المقاوم، تقوم الصورة الأولى على فكرة التقاء الصورة الخارجية مع المتخيل الحماسى للشاعر وتكويناته الثقافية التاريخية والواقعية، واهتمامه الإنسانى بقضايا الواقع،ولايكون انتقاله عبر الصور ومراحلها المختلفة خاليا من التأثير واستقطاب الوجدان، وهذا يجعل من النص الحماسى شحنة ودفقة تعبيرية،لاينقطع مدها ولايقف تأثيرها عند فكرة موضوعية محددة، واعتقد أن ذلك كله يتعلق بفكرة التمثيل الثقافى والمعرفى الذى يقدمه الشاعر والأديب عامة، ويظل ذلك مرهونا بعملية البناء والتكوين الفكرى، الذى يستمر حتى الدخول فى عالم النص الموضوعى .
وفى نص الدكتور صابر عبد الدايم " أعراس الشفق" تقوم الصورة الافتتاحية على فكرة التقابل التصويرى بين الواقع واستلهام التاريخ البطولى والدينى مباشرة، مما يجعل التركيب النفسى والموضوعى، يمتد انفعاله واستلهامه ليشمل عدة بناءات تنطلق من الواقع، ومن فكرة النص لتصل إلى قمة التقابل بين الرمز وبين الحقيقة التى يمثلها الشاعر، وتلك عملية بنائية تعتمد على ثقافة الشاعر الأصيلة، وصلته بالحاضر وقضاياه والماضى وتراثه البطولى المجيد .
يقول الشاعر:
مالت الى الغرب المآذن
ودم الأهلة فى المساء يقيم أعراس الشفق
وتصدعت رؤيا النبوءات العقيم
تعتمد الفكرة التصويرية فى المفتتح على الحركة التقابلية بين الفعل والرؤية البصرية السمعية،التى لاتقف عند المرحلة الأولى من التقابل، بل تلفت الانتباه إلى البحث عن السبب، واستكشاف الحقيقة التى يقدمها النص، والتى تبحث عن التأويل والانفتاح على الواقع، وتقديم المعادل الموضوعى ، والمتأمل يجد أن الفعل " مالت" صورة حركية فعلية ذات حدث وفكرة وزمن انتهت دورته عند الحدثية، ولم تتوقف وظيفته التصويرية فجاءت جملة " إلى الغرب المآذن" فكرة واستلهام تصويرى، ونتيجة أسلوبية تجمع بين ذكاء الالتقاط وبراعة الالتفات وحدة التنبيه على عملية التقابل بين دلالة الصورة السمعية الندائية ذات التأويل المعنوى والموضوعى المتعدد، وبين الصورة الكلية التى افتتح بها الشاعر النص .
وهذا يشير إلى سرعة التلبية وسرعة التوجيه، وعملية التشكيل التصويرى التى قدمها الشاعر، معتمدا على بناءات عديدة من الصور الحركية والبصرية والسمعية، والكناية هنا تقدم جانبا من الفكرة التصويرية استنادا إلى وظيفتها وتشكيل النص، وهى هنا عملية انتقال من الدلالة الأولى المعروفة إلى الدلالة الثانية الغير معلومة، والتى تعتمد على الاستنباط فمثلا القراءة الدلالية للجملة الفعلية والأسلوب بواسطة الدال والمدلول تصبح قائمة على التقسيم الداخلى :
مالت إلى الغرب 1- ( دال)
   المــــآذن 2- (مدلول)
الدال   = فكرة وبناء استعارى متعدى
المدلول الأول = فكرة وبناء استعارى متعدى
والنسبة بين الدال والمدلول لاتتحقق إلا بتعيين الكناية التى تفرز مدلولا خاصا، هذا المدلول يجمع فى طياته ما سترته الكناية من تلاحم وانفعال مشترك بين الشاعر والحقيقة والواقع .
المدلول الثانى الاستنتاجى :
يقوم على فكرة المستعار واستنتاج الفكرة الرمزية التى يريد الشاعر تقديمها، وهى ذات قسمين الأول: صورة وصفية حسية منقلبة عن واقع جاء به الشاعر فى نص شعرى حكائى ملحمى، الثانى : الدعوة إلى الجهاد واحتمال المواجهة بين المتحاورين فى فضاء الصورة النصية، بناء على فكرة ترديد الصوت واقترانه بالآذان، الذى يشير إلى الإعلام والتنبيه لفريضة وزمن وفكرة وحدث .
وفى المقطع التالى تبدأ عملية الالتفات التصويرى تتحقق وتتعين فى صور حسية ومعنوية ذات دلالة تشير إلى واقع متصارع يقبع فى هوة بعيدة قام المعادل الموضوعى بتقريبها، والتنبيه على دقائقها تنبيها نفسيا وتصويريا يقول الشاعرالدكتور صابر عبدالدايم فى تركيب حسى مزدوج الدلالة :
ودم الأهلة/ فى المساء/ يقيم/ أعراس الشفق
والقراءة الاستدلالية الأسلوبية تقف عند مدلول العطف والفاعل وحركة الجملة، وهى كلها تؤكد العملية البنائية الحسية التى قامت عليها الصورة، فالفاعل " دم الأهلة" تتوافق تكويناته مع الدلالة الظرفية الزمنية " فى المساء" التى تشير إلى حركة التشكيل الداخلى وزمنه، وهى هنا أشد ارتباطا فى فكرة الزمن، والكناية التى عمقت بين "الأهلة" ودلالة "الدم" بطريقة زمنية مستمرة تجعل الحضور موصولا ومقترنا بحقيقة المتخيل النفسى والوجدانى الذى استدعته التجربة،وهو منسوب حقيقة إلى جنس الشاعر، وإلى القاسم المشترك بين المسلم والمسلم، وبين الشاعر وعناصر المقاومة .
  والفعل وزمنه المضارع "يقيم" والمفعول التصويرى المركب "أعراس الشفق" عناصر تركيبية تتشكل منها الصورة اللونية البصرية التى ترمز إلى القتال وزمنه وجديته، وتلك حالة من التركيب التصويرى المتكامل بطريق الحس والشعور، وقوله : " تصدعت" التى تتكفل بتحليل الرؤية النفسية الموضوعية للفكرة وتُسلم الصراع إلى معادل موضوعى دينى، وقد استخدمت فى غير معناها لتعين الفعل الحقيقى وراء هذا التهاوى، وذلك على سبيل الاستعارة الرمزية.
ويتواصل المد الشعرى المتداخل فيقدم صورا تفسيرية للموقف، ويستدعى معجما قرأنيا بنائيا ينشأ الصور، ويقيم العلاقات والدلالات، ويستدعى موروثا مباشرا، يستمد حيويته وتدفقه من جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكأن الموقف والصراع يستنهض بدرا وأحدا وغيرها من الغزوات كالخندق وحنين، حتى تصبح الدلالة الأسلوبية والمعجمية، هى دلالة البناء والاستلهام للموروث الدينى والعسكرى والحربى والفدائى يقول الشاعر الدكتور صابر عبدالدايم :
ويطل أحمد فى يديه الآى والذكر الحكيم
يلقى الينا نار آيات القتال
يتلو علينا سورة المجد الكليم
والمتأمل فى حركة الفعل وزمنه يقف على أمرين الأول: الزمن المضارع والتنوع التصويرى فى توظيف المعادل الموضوعى فى وظائف مختلفة، مما يؤكد على أن عملية الاستلهام قامت على استقطاب الحس التصويرى، والقصد والمباشرة فى الاستدعاء، فالفعل " يطل – يلقى – يتلو" تتفاوت بينهما الوظيفة الإدراكية، فتصبح الصورة تحاورية أكثر منها استقرارية، هذا التحاور التصويرى يقودنا إلى تفسيرات الفعل بعد أن اتحد الزمن واتحدت دلالته الأولى،فى الفضاء التصويرى والمحيط النصى،وأصبح المتخيل التصويرى هو المنوط بتفسير وتأويل الرمزالأدبى والنفسى، فالفعل "يطل" صورة حسية بصرية تستدعى المشاهدة، والفاعل النورانى " أحمد" هو المحرك للحدث الداخلى للصورة، واقتران الذكر والآى بأحمد من دعائم التصوير فى النص، ومن البناءات التى استمر حضورها ورمزها ودلالتها فى التركيب العام للصورة، وقد انتسبت الصورة التالية إلى هذا الحضور، فالفعل " يلقى ويتلو" تعلق بالمفعول الأول فى الصورة، وارتبط بالفاعل النورانى "أحمد" وهذا الترابط أدى إلى توثيق الصورة، والفعل والفاعل، وتقديم حالة من التوجيه النفسى الدلالى المباشر للفكرة التى طرحها الشاعر مباشرة فى مفتتح النص .
 وهنا تتجلى حكمة الشاعر فى عملية الحضور المحمدى النورانى، حيث ينوب بحضوره هذاعن التواصل والاعتماد على المتخيل الشعرى المباشر، فيصبح الصوت والضمير هو صوت النبوة وضمير الرسالة المحمدية، وتصبح عملية الاستلهام هى قوة الحق وصراخ الواقع،وتتحول الصورة الشعرية مباشرة من مخاطبة الصراع الدائر، إلى مخاطبة الضمير والرؤيا من زاوية الحس الجهادى المحمدى، واختتم الشاعر الصورة الافتتاحية وقد أطلق فى جنباتها الصور الجزئية الفعلية، المتضمنة معنى الاستعارة فى الفعل "يتلو" كحقيقة وفضاء  سمعى، هذا الحضوريعد استنفارا تحققت فعاليته بواسطة الحضور النبوى الكريم والذكرالمتمثل فى الآى الشريف، وأدى ذلك إلى أن أصبحت تلك السمة الاستدعائية هى فكرة ومحور الصورة الموضوعية، ومع ذلك فالاقتصاد فى التعبير كان هو سمة الصورة الافتتاحية وهو العامل الأساسى فى بناء واستلهام الأحداث والرؤى التصويرية، حيث وردت هذه الصورة فى مقطعين فقط، مما يؤكد أن عملية البناء داخلية إبداعية تأسست بفضل استيعاب التجربة، والقدرة على تمثيلها وترجمتها حركة وصراعا واستلهاما أدبيا تراثيا إسلاميا يربط بين الماضى والحاضر،فى تواصل زمنى قائم ومدرك.
5- الصورة الموضوعية :
الصورة الموضوعية فى نص " أعراس الشفق" للدكتور صابر عبدالدايم،تتشكل من لجة الصراع والحدث النفسى داخل النص، واللذان يصوران النسق العام الذى يتكون منه فضاء النص، ويمكن تعيينها فى المكان والزمان اللذان تستظل بهما الدلالة النصية، وكذلك العناصر التراثية المتعددة التى ساعدت فى تشكيلهاعمليات الحضور المتواصل للعلاقات المتداخلة فى التجربة الشعرية، من هنا فإن بناء الصورة اعتمد على حضور المتخيل الخارجى أو ما يسمى بالصورة الخارجية، والتى أصبحت معادلا موضوعيا يمد النص بالعديد من الرؤى والأفكار النفسية والفكرية، التى تتوافق مع طبيعة النص الحماسى المقاوم .
يقول الدكتور الشاعر صابر عبدالدايم:  
صوت المآذن فى سراييفو تجمد
وإلى ربا الفردوس
قد صعد ت عناصر أمة
لتعود بالقرآن كونا قد توحد
كل المحاريب انتفاضة أمة تهوى محمد
كل الدماء حدائق
تهدى عطاياها محمد
الدلالة الموضوعية هنا تشمل عدة صور منها الصورة السمعية الصريحة المباشرة، والظرف وتحديد المكان وبعثه صراعا وانتفاضة حسية، مقابل حالة الجمود التى أصابت الحياة التى ترمز لها المدينة " سراييفو" ثم انتقال الدلالة من الوصف الحسى المباشر، إلى خطاب الروح والمناجاة ووصف الصمود وقوة الإيمان، والرباط المقدس الذى يجمع بين صوت الحق وصدق العقيدة، والانتساب إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
من هنا فإن المقطع الشعرى الموضوعى يشير إلى بناء تصويرى قائم على استحضار الدلالة السمعية كصورة واستعارة مكنية، تنضوى تحتها كل رموز الحياة فى سراييفو وقد تجمدت، والصورة هنا صورة حياة وصفة أمة تناوب عليها العدو فأخمد صوت الحق فيها محاولا تبديل عقيدتها.
كذلك يشير التركيب إلى استحضار الصورة المقابلة والتى تعين صفات هذه الأمة وقد تجلت فى قوله: "وإلى ربا الفردوس" وهى أعلى قمة فى الجنة وتلك إشارة إلى منزلة الشهيد، وفى ارتباطها بالقرآن، وحب محمد صلى الله عليه وسلم، يظل الارتباط من تداعيات التداخل التصويرى، فى النص يسير على هذه الطريقة التقابلية، التى تجمع بين صراع الحاضر، وفلسفة هذا الصراع ونتيجته، التى تتعلق بالمنزلة والدرجة الرفيعة فى الجهاد، وتقوم الصورة على جدلية التقريب بواسطة التشبيه، الذى يؤدى دورا تصويريا فعالا يرتبط بتاريخ الجهاد وصوره فى سراييفو، يقول الدكتور صابر عبدالدايم مقدما النموذج البطولى :
 - الشيخ كالطود الأشم
يطل من برك الدماء
يهل فى ثوب الإباء
سيف العقيدة فى يديه يحز أعناق الطريق
أمام من يلقى الصخور
على ضياء القبلتين
تنمو بعينيه الحقول المثمرات
أنا النبى لا كذب أنا ابن عبد المطلب
والطفل ينفض عن جناحيه الموات
يصير شمسا فى نداء المصطفى الأتى
بإحدى الحسنيين
والشيخ فى سراييفو فتى
يتسلق الجبل المسافر فى منارات الفداء
ويشب فى قلب اللهيب لواء ثأر
يستوى غصنا من النار
الحياة تدب فى أوراقه
والمتأمل فى تكوين الصورة والمعادل الموضوعى الذى ساعد فى بناء أركانها يجد أن عمليات الارتباط التى قامت عليها لم تخرج عن مسار الرؤية الموضوعية، التى ربط فيها الشاعر بين الحاضر واستلهام الموروث البطولى القتالى للمسلمين، فى قوله : أنا النبى لاكذب أنا ابن عبدالمطلب، وهو نداء ألقاه الرسول صلى الله عليه وسلم فى غزوة حنين، حينما اهتزت صفوف المسلمين فى بداية المعركة، وردده العباس رضى الله عنه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم،فتجمع المسلمون مرة أخرى وكانت لهم العاقبة والنصر،وتلك رؤية ومعالجة من الشاعر يحاول فيها جمع المسلمين مرة أخرى على غرار ما حدث فى غزوة " حنين"، وتلك نزعة استلهامية، موازية للحدث، وشاملة للموقف، تجمع بين دلالة التعبير، وصدق التمثيل الوجدانى، مما يجعل النص حركة ملحمية متواصلة تجمع بين السابق واللاحق .
ويقدم الشاعر صورا من النضال والجهاد معتمدا على التشخيص والجمع بين الشيخ والطفل، فى دلالة تقريبية تؤكد على شمولية التجربة وإحاطة الشاعر بعناصر الفكرة المقاومة، فى هذه المعركة، كذلك تطفوعلى محيط النص وفضاء الصورة، قوة التمثيل والتخيل وبناء المعادل النفسى الذى يجمع فى دلالته الجوانب الزمنية الإدراكية للفعل والمقاومة، والتأثير الموضوعى فى وجدان القارىء، وهنا ينتقل بالنص من وظيفته الأساسية الأولى إلى وظيفة أخرى جديدة، يعتمد فيها الشاعر على النص التراثى الموازى، فى توصيل الفكرة الجهادية كبلاغ عام يستجمع الصورة الموضوعية، ويرسل الصورة القتالية، ويقيم جسرا من التفاعل مع القارىء والمتلقى عموما .
وينتقل الشاعر من التشخيص التمثيلى النفسى الخاص،إلى التشخيص المكانى العام الذى يتناول فيه الخصوصية القتالية للمكان كرمز للحياة والنضال والاحتماء والعون من الله تعالى يقول:
هذى سراييفو تزف الى السماء
وتحتمى بالعرش
تدخل ساحة الملكوت
تقهر سطوة الرهبوت
تهدم سدة الطاغوت
ترفع فى سماء الله قصة أمة
وهبت الى القرآن كل زمانها
سكنت هويتها ذرا إيمانها
دفنت نفايات الهزائم فى ضحى أحزانها
والخيل خيل الله تركض فى صدى أشجانها
ودماؤها تغلى
وما يبست على جدرانها
رسمت على الطلل الموحد
صورة الوحش البدائى
استحال الصرب فى فكيه جنا كافرا
بالله والإنسان والكون الضئ بشمس آيات المحبة
وعلى الشوارع و النوافذ والزوايا
فى سراييفو الجماجم شكلت سحب الدماء الداكنة
شادت من الأشلاء مئذنة وقبة
هى لم تزل حبلى بماء النار
فيها تستثار أجنة الشهداء
حين مخاضها مطر الحياة يهل
يصرخ
ولعل انتقال الصورة من التشخيص المعنوى إلى تشخيص المحسوس وبعث الواقع يجعل من النص الموضوعى حركة دائبة، تفوق الحياة التى يمكن وصفها خبرا وقصة تروى، والتشبيه هو مدار النص التصويرى، وهو قصة الانفعال التى جادت بتلك الرؤية المزدوجة،رؤية الشاعر ورؤية النص، والخروج برؤية موحدة، تشير إلى قراءة الصورة من زاوية الترجمة وانعكاس الحال والواقع، على مسيرة المدينة، التى استطاع الشاعر أن يقدم لها تشخيصا وتشبيها موحدا، تجتمع فيه كل عناصر القتال الحقيقية، التى تبنى وتقود إلى الواقع والنتيجة الضمنية النفسية لتلك الواقعة ولعل قول الشاعر : " فى سراييفو الجماجم شكلت سحب الدماء الداكنة " تعبير وتشبيه وإدراك للصورة الموضوعية التى يحاول الشاعر تقريبها وتصوير الحياة القتالية من خلالها، والصورة انتقال من المحسوس الحقيقى إلى التصوير التشخيصى، الذى يجمع خصوصية المكان،ويحكى النتيجة التصويرية، والصورة تتوزع بين الإشارة الظرفية والصورة الحسية والحركة واللون والرمز، وكلها تصف وتجسد ما كان فى تلك البلاد من اجتياح وتبديل، وفى نفس الوقت تصف حال أمة تقاوم وتبنى تاريخا ونضالا وشهادة .
6- الصورة الأخيرة :
فى نص الدكتور صابر عبدالدايم " أعراس الشفق" تتشكل الصورة الأخيرة بناء على فكر ووعى الشاعر وقدرته فى تقديم النموذج النفسى الذى يقوم على توازن القوى التعبيرية النصية التى تمثلها الصورة الداخلية بكل تكويناتها،وانتقالاتها التشخيصية والتمثيلية المتدفقة حركة وحياة ، كما تقوم الصورة الأخيرة أيضا على المتخيل الحضارى الموضوعى الذى يجمع بين دلالة الفكرة، وعدم الاهتمام بالصورة التقليدية لفنية المقاومة، ومن ثم الجمع بين عدة تمثلات وحقائق هى من صميم الفعل الإيمانى المقاوم، الذى يعد مرجعية مباشرة تتلاقى عندها الصورة الخارجية بكل أبعادها وتمثلاتها المختلفة .
 وتلك المعالجة الإبداعية من دلالات النص المقاوم الجديد، ومن تكوينات الشاعر المعاصر صاحب الفكر والثقافة، والقضية التى تفوق التعبير إلى مراحل أخرى من مخاطبة الوجدان والواقع، الذى ينتقل بالنص إلى مراحل من التعبير الإدراكى عكس ماكان يحدث سابقا، فى تجربة الشاعر البطولى واتجاهاته المختلفة،فأنت ترى البشارة تخرج من دلالة الفكرة، وترى النصر قرين النضال، وترى الرمز وتخيلاته المتعددة نتيجة من نتائج التجربة فى الشعر القومى المعاصر، وفى شعر الدكتور صابر عبدالدايم الذى يقول معبرا عن اللمحة الأخيرة، ومستدعيا تراثا حضاريا حقيقيا، ترى تمثيلا نفسيا يحتوى الصورة التشاركية، التى تؤكد حقيقة الفعل، وتؤكد اهمية المشاركة، ولاتقف عند حدود التعبير الأولى، وتجد توازنا إبداعيا بين الفكرة والوظيفة والنتيجة التى تحكى قصة المآذن التى مالت إلى الغرب، فى أعراس الشفق :  
والوليد بحجم هذا الكون
يحمل فى اليمين شموس توحيد وميلاد العقيدة
وعلى اليسار تضوع أقمار الوجود
وتولد الدنيا الجديدة
وتعود تصهل فى سراييفو المآذن تلتقى
بالعاديات ضبحا
والموريات قدحا
وتثير نقع الفتح تشهد ضوء خيل الله صبحا
والمتامل يجد أن الموروث الدينى القرأنى كان من دواعى التذكير ليس للنص والتجربة وإنما للفعل الحركى البطولى وتداعياته على مستوى التجربة وعلى مستوى الصورة الخارجية وعلى مستوى فضاء النص التعبيرى، وكان من نتيجة ذلك قدرة الشاعر على اختراق الوهم واجتنابه فى ضوء المعادل الإيمانى الذى سار عليه النص، مما ساعد فى دفع النص مباشرة فى واقع الحقيقة التى تمتد امتدادا من الصورة القرانية ذات الحضور والانفعال ، ويظل هذا الانفعال الحضارى والفكرى البنائى، متواصلا مع القرآن ومع أحمد النبى صلى الله عليه وسلم فى أشكال تعبيرية تصويرية ذات رؤية استشرافية يستقرأ الشاعر بها الواقع والماضى ويحلق فى آفاق المستقبل، وكأن الجهاد والقتال والمقاومة والجنة والنعيم المقيم حلقات متواصلة يبدأها المسلم ثم ما تلبث أن تعود وتتكرر مرارا وتكرارا، ثم يطل أحمد من جديد، مرات ومرات يبعث العزم ويقيم النصر ويبث الجهاد قيمة وحياة وفلسفة إيمانية متجددة بتجدد الدين والحق والخير، دائما يقول الشاعر الدكتور صابر عبدالدايم:
ويطل أحمد فى يديه الآى و الذكر الحكيم
ويبث فى يبس الشرايين الإرادة
نبض آيات الجهاد
يتلو علينا سورة المجد الكليم
وعلى يديه الراية الخضراء تطعن كل شيطان رجيم
وإلى ربا الفردوس كل قوافل الشهداء
كالأشجار تصعد
لتعود بالقرآن كونا قد توحد
كل المسافات انتفاضة أمة تهوى محمد
كل الدماء حدائق
تهدى عطاياها محمد
والمتأمل فى دلالة هذه الصورة يجد أن الشاعر قد استدعاها فكرة ومعنى ومعادلا موضوعيا من بداية النص وبداية التكوين التصويرى ثم أنهى بها ذلك الحضور الاستشرافى المقاوم، مما يدل على فكرة التمثيل القتالى والبناء الحضارى والقدرة على بناء التجربة فى ظل الصورة التجديدية التى تستمر فى فضاء النص، وتبنى عليها المراحل التعبيرية الإبداعية التطورية .
من هنا فإن شعر المقاومة فى الإبداع الشعرى المعاصر شهد تطورا كبيرا فى اعتماده على المعادل الموضوعى الحضارى، الذى يجمع فى داخله صورا تركيبية تؤكد الفعل والحقيقة، وتقدم المنحى الفنى المتداخل الذى يرمز إلى حركة الحياة المعاصرة، والتى لن يتوقف مدها وانفعالها مادام هناك قلب ينبض بالمقاومة، وهناك عقيدة راسخة عامرة بالحق واليقين والأمل والرجاء، وهذا ما قدمه الشاعر الدكتور صابر عبد الدايم حينما جمع بين حقيقة الفعل المقاوم، والتواصل الحضارى لرسالة المقاومة منذ فجرالدعوة الإسلامية الخالدة . 
                                                                        الدكتورنادرعبدالخالق
ـــــــــــــــــــ
من مشاركتى فى مؤتمر اتحاد الكتاب القرية حاضنة المقاومة الزقازيق 2010م
1) ديوان مدائن الفجر للدكتورصابرعبدالدايم
2) مختار الصحاح.
3) السابق

الجمعة، 17 فبراير 2012

عرض موجز لكتاب الصورة الموضوعية فى الشعر المعاصر ريهام نوار الفصول للدسوقى أنموذجا الدكتورنادرأحمدعبدالخالق



عرض موجز لكتاب الصورة الموضوعية فى الشعر المعاصر ريهام نوار الفصول للدسوقى أنموذجا الدكتورنادرأحمدعبدالخالق

المقدمة :
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه وسلم أمين ..
                                         (1)
كان النقد فى القرون الأولى نقدا انطباعيا تأثّريا، لايقوم على نظرية أو فكرة نقدية، بقدر ما كان يقوم على العرف والذوق، إلى أن جاء الإغريقى "أرسطو"، ووضع نظريته الفلسفية النقدية، والتى تقوم على المحاكاة للطبيعة والحياة بشكل عام، مع اختلاف فى الوسائل التى يحاكى بها كلّ فن، فالأدب يحاكى الأشياء وأدواته هى اللغة والألفاظ، والموسيقى تحاكى الأصوات وأداتها النغم الصوتى المعروف والرسم كذلك يعتمد فى محاكاته على اللون وتباين الخطوط والظلال .
وشهد النقد الأدبى نهضة كبيرة تقوم على أصول ونظريات راسخة فى عهد الدولة العربية الإسلامية الأولى فأفرز لنا الأفكار والقضايا والعلماء والمفكرين فى مجالات النقد المختلفة على مستوى اللغة والبلاغة والعلوم الآخرى وكان من بين هؤلاء "عبدالقاهر الجرجانى" و" الجاحظ " و" قدامة " و" ابن قتيبة " وغيرهم من الرواد الذى أقاموا هذه النهضة الفكرية خاصة فى عصر الدولة العباسية، ولظروف نعلمها جميعا ولامجال للخوض فيها تراجعت هذه الأفكار بتراجع الأمة بعد أن ظلت هذه النظريات والأفكار مسيطرة على الفكر الإنسانى قرونا طويلة .
 إلى أن ظهرت المذاهب الأدبية المعروفة، بالرومانسية والواقعية والرمزية والكلاسيكية والطبيعية والوجودية والسريالية.. إلى أخره .. والواقع يشهد أن هذه المدارس والمذاهب قامت على أنقاض بعضها البعض، لأنها جاءت متناقضة فى جوهرها وصميمها، فهى إما بعيدة عن جوهر الحياة وحقائقها، وإما معتنقة لفلسفة إلحادية مادية غير مستقيمة.. وفى النهاية فإن هذه المذاهب قامت لخدمة أغراض شخصية، وانحرافات عقلية، ونشر معتقدات خاطئة، كالمذهب الكلاسيكى، الذى يقيم أدبه على شطر واحد فقط وهو العقل دون سواه من العاطفة، والمذهب الرومانسى الذى يفْرط أصحابُه فى التغنى بالألام والأوجاع لدرجة تصل إلى استعذابهم لمثل هذه المعتقدات، والمذهب الواقعى الذى يلتصق بحقائق الحياة ليتخلص منها لا لينقيها ويخلصها مما علق بها من شوائب، وكذلك أصحاب الرمز لاهم لهم إلا الهروب من الحياة وواقعها لأنهم غير قادرين على المواجهة والحسم. (*)
وفى القرن الماضى شهد الأدب نهضة فكرية كبيرة، واكبتها نهضة نقدية قفزت بالأدب إلى مراقى بعيدة من الفكر والوعى، لكن هذه النهضة فى أحيان كثيرة كانت تسير فى ركاب هذه المذاهب، حتى أصبح لكل جيل أو جماعة سمة مذهبية، فهناك جماعة الرومانسيين والواقعيين والرمزيين إلى أخره فى كل فنون الأدب، وظلت هذه النزعة المذهبية مسيطرة حتى مطلع القرن الجديد، أدبا ونقدا وخلفت وراءها تراثا ضخما من النقد والتوجيه، والذى أصبح مغلّفا بالتقليد ومحاكاة بعضه البعض وهذا لايعنى أن هناك تخلفا أو تراجعا وإنما يعنى بعدا حقيقيا عن تراثنا ونهضتنا الأدبية والنقدية والبلاغية واللغوية فى عصور الازدهار، التى كانت مليئة بالنظريات والأفكار المختلفة، التى يمكن أن تكون فكرا جديدا وعملا أدبيا راقيا .
وعندما كنت أدرس الدكتوراة فى الأدب الروائى فى الشخصية بين على أحمد باكثير ونجيب الكيلانى، رجعت إلى الكثير من المراجع العربية والأجنبية، ووجدت أن الأفكار واحدة ومتداولة من كاتب إلى أخر، ومن ناقد إلى أخر، وذلك بسبب سيطرة النزعة المذهبية، وأن ما يقال هنا تجده هناك، وأن النقد أصبح نقدا انطباعيا، لايرجع صاحبه إلى معتنق جديد على مستوى الموضوع والتطبيق، ولجأ النقاد إلى التأريخ والإحصاء المذهبى، يقولون الرومانسية عند فلان، والواقعية الجديدة، والواقعية عند فلان، والرمزية فى أدب فلان ...، بل ويقسمون المذهب الواحد إلى أقسام وأنماط، والإفراط فى هذه الدراسات جعل هناك تقليدا ومحاكاة وحصارا فكريا، جعل التجديد فى الفكر النقدى لايخرج عن هذه المعتقدات، حتى تناسينا خصوصيتنا العربية، وتناسينا أفكارنا وموروثاتنا الفكرية واللغوية والنقدية .
                                        (2)  
 وظل الشعر متأثرا بهذه النزعة فترات طويلة، حتى أصبح الشاعر العربى يعبر حسب تصانيف لا تتفق مع طبيعته وميوله وبيئته وعالمه وموروثاته، التى تتسم بالأصالة والصدق والعمق والشعور.
 وفى مطلع القرن الجديد، ظهرت مجموعة من الشعراء الذين يعبرون عن حياتهم مقرونة بماضيهم البعيد وحاضرهم الانفعالى، يمثلون تيارا أدبيا خاصا يهتم بالتعبير والتمثيل، التعبير بالوجدان والتمثيل للحياة والعالم، والتواصل مع الماضى ذى الخصوصية التاريخية الإنسانية التى تستلهم المواقف والأحداث وتعيد تمثيلها وصياغتها فى ثوب تعبيرى جديد .
وكان من نتيجة ذلك أن أشكال التعبير الأدبى اختلفت، وأصبحت بعيدة عن المذهبية، وانحصرت فى التركيز والتكثيف الشديد للصورة الأدبية، التى أخذت أشكالا متنوعة من التعبير، وانقسمت أقساما عديدة تبعا لعملية التمثيل والترجمة النفسية والشعورية،التى ينطلق منها الشاعر، وتبعا للفكرة التى يقدمها ويعالجها فى موضوعه، وبدا الاعتماد على طرفى الصورة أمراً لا مناص منه، فالصورة الخارجية هى التى تمد النص بالفكرة والموضوع، وهى النبع الذى يسعف الشاعر والأديب دائما، وهى الصلة الأكيدة والمباشرة بين الحياة والعالم والوجود الذى يحيا فيه الشاعر، وبين عالم النص والصورة الداخلية التى يتكون منها النص .
 وهى فى الشعر اللغة والأسلوب، وذات الشاعر هى التى تختار وتميز بين المواقف والتراكيب التصويرية، واللغة والأسلوب ليس المقصود بهما الجانب البيانى فقط، وإنما بجانب ذلك هناك بعد أخر وهو الوقوف على بنية التراكيب النحوية فى الأسلوب، لأن ذلك يتبعه رؤية وترجمة لمشاعر ومواقف تصويرية خاصة، توضح كثيرا من منغلقات النص الأدبى .
من هذا المفهوم أصبح للصورة فى النص الشعرى اتجاهات قد تغنى فى القريب العاجل عن القيم التى تفرزها الاتجاهات الموضوعية، أو على الأقل تصبح سمة نقدية وهدفا يسعى وراءه الأديب والناقد لما فيه من جدة ورشاقة وانعكاس لروح الأديب وعالمه الذى يسجله ويمثله فى النص.
 ومن هذه الاتجاهات الصورة الموضوعية، والصورة الفنية المعروفة سلفا، ومن بين هاتين الصورتين يبرز اتجاه جديد لم يكن مطروقا فى عالم النقد والتحليل، وهو حوار النص وانا أسميه الحوار الداخلى للنص، وهوالنقطة التى يلتقى فيها الأديب والموضوع والفكرة والنص والعناصر الآخرى، التقاء نفسيا ووجدانيا وموضوعيا وفكريا، يصل إلى حد التشخيص والانصهار، فى لوحة واحدة معبرة تجمع مابين الصورتين من علاقات وأفكار ورؤية شعورية تصف حال الأديب من الداخل .
والصورة الموضوعية لايقف انقسامها عند محيط بعينه أو فضاء محدد، بل هى تتنوع وتتشذر تبعا لنشاط الأديب الفنى والموضوعى، فمرة تأتى من الخيال، وتارة تأتى من الخارج والعالم المحيط بالشاعر، وتارة تأتى من الماضى البعيد، وتارة تأتى من بين النفس والشعور، وتارة تأتى كونية وبصرية وسمعية وشمية ولمسية وتذوقية، وتارة تأتى زمانية ومكانية ويمكن أن تكون ممثلة لعنصر من عناصر الموضوع، من هنا فالصورة الموضوعية هى الوعاء النفسى والوجدانى الذى يعكس عناصر الموضوع، ويترجم انفعالات الشاعر والأديب.
وقد تلى هذا التطور تطور آخر فى بنية القصيدة الداخلية، خاصة التركيب الموسيقى والتصرفات الإيقاعية التى تتواءم ضمنيا مع بنية الصورة، وأصبح التعبير الشعرى يتمتع برشاقة تناغمية تفوق النظرة إلى البحر والتفعيلة التى جاء على وزنها، حيث تبع ذلك أن الإيقاع الداخلى والمقصود به الزحافات والعلل قد لحقها تغيرات عدة، تبعها تصرفات نحوية اقتضتها ضرورة الحفاظ على الصورة ومركباتها منها : - صرف الممنوع، وحذف الهمزة أوإثباتها، تبعا للوصل والقطع، والعلاقات التى يقوم عليها الضمير النحوى والتقديرات المختلفة فى التراكيب الداخلية وغيرها من الأمور التى تعود مباشرة على عملية الانفعال بالموقف الذى يتكون منه التركيب التصويرى، كل هذه التصرفات الفنية الداخلية للنص الشعرى تحتاج إلى وقفات تأملية فى ضوء معطيات الصورة الأدبية، التى تأتى فى صيغتها الأخيرة، وقد مرت بمراحل من التكوين فى وجدان الشاعر تغير خلالها الوزن وتنوعت العلل والزحافات تبعا لمقتضى النظم الداخلى وخاصة إذا علمنا أن الصورة بأقسامها العديدة يمكن أن تتعين فى كلمة واحدة، وفى جملة وفى تركيب شعرى متعدد ومركب .
                                      (3)
وقد انحصرت قراءتى الشعرية فى أعمال الشاعر المعاصر " محمد سليم الدسوقى "  وجاءت كما يلى :
 القسم الأول : قراءة التجربة
وقد قمت برحلة فى دواوين الشاعر التى خرجت إلى النور والنشر لافتا النظر إلى  الخصوصية الموضوعية لكل ديوان، وما يميزه على مستوى الفكرة، محاولا تتبع مراحل تطور التجربة لدى الشاعر، واستعنت فى ذلك بآراء الشاعر نفسه والتى ضمتها مقدمات  بعض الدواوين، واعتمدت على محادثاته معى أثناء اللقاءات التى كانت تجمعنا، واستشهدت بأبيات وقصائد عديدة ومطولة تمثل عمق التجربة، وتعكس انفعالات الشاعر، عبر رحلته الشعرية الطويلة، التى استغرقت ما يزيد على أربعين عاما من الإبداع المتواصل .
وخلصت من هذه الرحلة إلى شيئين اعتقد أنهما محورين أساسيين فى تجربة الشاعر " محمد سليم الدسوقى " ، الأول : يتعلق بالصدق الأدبى والنفسى، ومطابقة الموضوع الشعرى لرغبة الشاعر فى التعبير وتحقيق الذات، وتلك خصوصية تحتاج إلى بحث مستقل فى شعر الشاعر.
 الثانى : الثقافة اللغوية والتصويرية التى يتمتع بها الشاعر والتى تعد مفتاحا من مفاتيح النص لديه ومحورا تنطلق منه الصورة بقسميها وتعبيراتها المختلفة، هذه الثقافة المتنوعة جعلت القصيدة " الدسوقية " تتمتع بخصوصية فريدة فى التعبير، هذه الخصوصية أتاحت للغة المعجمية أن تتواكب مع متطلبات العصر فى توظيفات معاصرة تحافظ على أصالة اللفظ واللغة وحداثة التركيب والإشارة إلى البناء المركب، الذى يحتوى الموضوعات والتعبيرات المختلفة الحداثية والمعاصرة، ونتج عن ذلك أن الصورة الأدبية لم تقف عند ملمح فردى، بل تجاوزت ذلك ببعيد، حيث وردت مركبة فى معظم الأحيان، وقد جعل الشاعر من الصورة جسرا يصل بين جماليات الماضى، وانفعالات الحاضر، ورغم أن الموضوع الشعرى يرتبط ويتعلق بالحاضر إلا أن صلته وثيقة بالتراث، وذلك بواسطة اللغة والرمز واستلهام التاريخ، والربط بين دلالة الماضى والحاضر فى صورة أدبية رشيقة، تقوم على الانفعال والتركيب الوجدانى والإنسانى.
القسم الثانى :
الصورة الموضوعية 
وتناولت فيه الصورة الموضوعية من خلال الدراسة التطبيقية للقصائد التى ضمها ديوان " ريهام نوار الفصول " للشاعر محمد سليم السوقى، وقد حاولت من خلال هذه الدراسة التطبيقية قراءة النصوص قراءة تتفق وطبيعة الطرح الذى يكمن فى طبيعة الشعر الجديد كمذهب له خصائصه التى يجب أن نقف عليها، وأن نحاول استنباط أهم صفاته اللغوية والتصويرية التى تكشف عن اتجاهات الشاعر وثقافته التى يمتح منها ومدى تمثيله لنفسه وواقعه ومجتمعه تصويرا موضوعيا وفنيا .
                                                               القسم الأول
                              قراءة التجربة الشعرية
قراءة التجربة :
" محمد سليم الدسوقى "  شاعر مصرى معاصر من الشرقية من ديرب نجم من قرية قرموط صهبرة مواليد "1938" تلقى تعليمه فى رحاب الأزهر الشريف حتى تخرج فى كلية اللغة العربية، وعمل مدرسا بوزارة التعليم وتدرج فى المناصب حتى تقلد منصب مدير إدارة ديرب نجم التعليمية ثم أحيل للمعاش عند بلوغه سن التقاعد، وهو يقرض الشعر منذ زمن بعيد يربو على الخمسين عاما، جادت فيها قريحته نحو عشرين ديوانا من الشعر الصافى العذب الرقراق،الذى ترى فيه شخصية صاحبه، وترى فيه أصالة وتواصلا مع التراث الفكرى العربى، الذى يمثله شعراء النخبة أمثال "البحترى" و"أبوتمام" و"ابن المعتز" وغيرهم من رجالات الشعر فى العصور الزاهية، وترى فيه روح المعاصرة وتمثيل الواقع من حوله والتعبير عن وجدانه وحياته وأموره الخاصة والعامة، دون أن يبعد عن إشكاليات الواقع العام وخصوصيات الفن الشعرى على مستوى الموضوع، وعلى مستوى الامتداد للأجيال السابقة، على اختلاف مدارسهم واتجاهاتهم المعاصرة، فأنت ترى فيه ملامح من "محمود حسن إسماعيل" فى موسيقاه وأنغامه و" صلاح عبدالصبور " فى صوره المركبة، و" بدر شاكر السياب " فى معاناته و" الفيتورى " و" أمل دنقل " وغيرهم من رواد الشعر المعاصر فى تمثيلهم للحياة والمعالم الإنسانية، بالإضافة إلى حرصه وولعه بالأساليب العربية والبيانية التى تنساب فى شعره وتغلف صوره وهى مستوحاة من در القصيد العربي الأصيل، ورغم صعوبة مقصدها إلا أن عملية التوظيف المحكمة جعلت من هذه الألفاظ رؤية وواقعا جديدا يمور بالمتعة والرقة والجمال والسهولة والعذوبة والرصانة وقوة التركيب .
ولم تخل موضوعاته من النزعة الإنسانية والأخلاقية الحانية المتشذرة، وذلك بواسطة الطريقة الجديدة فى تمثيل الحياة والواقع من حوله، دون أن يتقيد بمذهب أو مدرسة تقليدية خاصة، يقلد فيها الآخرين، فأنت ترى عنده اللفظة العذبة الرقيقة ذات الجرس الموسيقى والاستعارة البديعة، وترى عنده اللمحة الخاطفة، وترى كذلك الصورة المركبة من نفسه وواقعه المحيط به، فهو لديه القدرة على تمثيل الذات والواقع والعالم من حوله .
من دواوينه التى صدرت مؤخرا :
1- صلوات على زهرة الصبار .
2- طقوس الليلة الممتدة .
3- الحب فى زمن الرمادة .
4- قطرات العشق الإلهى .
5- شال القطيفة والبندقية .
6- جلاجل الفرس وردية الإيقاع
7- تنهدات الريح .
8- وازمان الوصل بالأندلس .
9- مواجيدى .
10- تغاريدى .
11- سنوهى فى بلاد العشق.
12- الشعر يبحث للأميرة عن أمير.
13- الوارد العلوى طاف .
14- أبابيل .
15- ريهام نوار الفصول .
16- النهر .. صب لم يزل .
17- معاشق الهديل والنخيل والمطر .
18- يا خيل الله اركبى.
19- مولاتى تمطرنى شعرا .
20- هللى ياطيوب.
21- أحلى ما كتب محمد سليم الدسوقى.
22- من العشق الإلهى إلى عشق الوطن.
23- أشواق الخريف.
24- أوراق السنين .
25- قنانى السبيل .
26- أغانى الرحيل .
وغيرها من الدواوين التى تنتظر النشر، وقد أطلعنى الشاعر عليها فى دفاترها مخطوطة، تضم أجمل الألحان وأعذب الأصوات والموضوعات والصور المركبة الجميلة، التى تنم عن عبقرية شعرية وتجربة متنوعة بعيدة فى الدلالة والفكر عبر فيها الشاعر عن نفسه وعن عصره أصدق تعبير، والمتأمل فى تجربة الشاعر يجد أنه قال فى أغراض شتى وموضوعات عديدة يغلفها الحس الدينى ويطبعها الطابع الإنسانى والوطنى والقومى والبطولى والاجتماعى والتأملى الذاتى والوجدانى، وأهم ما يميز الشاعر فى هذه الدواوين كما أشرت منذ قليل اللغة الخاصة المركبة، هذه اللغة يظن القارىء لها من الوهلة الأولى، أنها لغة معجمية التزم الشاعر فيها التقعير والنظم على غرار المعاجم، والحقيقة أن ذلك غير صحيح ويحتاج إلى توضيح، فشاعرنا يلجأ إلى اللفظة الفصيحة الأصيلة ذات الشحنات الانفعالية، وذات التأثير الوجدانى المباشر، هذه اللغة استطاع الشاعر من خلالها أن ينشئ  صورا مركبة ذات تكوين خاص، اعتمد فيها على تمثيل ذاته ونفسه أولا، واستطاع أن يقدم الموضوعات الإنسانية الاجتماعية ذات الفكر المباشر والأثر الفعال على القارىء والمتلقى، وفى نفس الوقت تمتاز هذه الصور بالرشاقة والدقة فى التركيب، وتعكس ثقافة واسعة واستيعابا لتجارب السابقين، والنهوض بحركة الشعر الحديث، كل ذلك يؤكد على أن الشاعر يعكس تجربته هو ويعبر عن واقعه وذاته فقط .
وعندما نقترب من عالم الشاعر ونتعرف عليه من قرب نجده يقول فى مقدمة ديوانه " صلوات على زهر الصبار " : " الشعر فن الحياة لأنه مستمد منها، والشاعر الحق هو الذى يصور الحياة على حقيقتها دون زيف، ويسبر أغوارها.. فيجعلنا نحس الأشياء المألوفة المعروفة شيئا أخر بما يضفيه على شعره من معان وأفكار لا تدور بخلد الشخص العادى مهما أوتى من علم أو فن أو ثقافة أو تجربة لأن الشعر لغة الخيال، وإذا كان الشاعر صادقا مع نفسه فهو يمثل الجو المحيط به، والمتصور له ويعبر عنه أصدق تعبير وهو متجرد من أهوائه ونوازعه، والشاعر خلاق يبتكر المعانى والصور والأخيلة التى تكون لها رواسب قديمة فى نفسه وفى حال سلبيته يستسلم للإلهام الذى يأتى فجأة فيرى بعينه الشاعرة كل جوانبه ونواحيه، ويستحضرها ويلقى ظلاله عليها، والشعر موهبة تولد مع الشاعر يستشعرها فى  سن مبكرة، فإن هو أهملها خمدت، وانطفأ لهيبها، وإذا هو تعهدها بالصقل والدراسة ظهرت بشائرها وهو لما يزل حدثا فكان الشاعر وكان الشعر،  ألهمت هذا الاستعداد وانا فى هذه السن معجبا بزملاء الدراسة الشعراء، وبأساتذة اللغة والأدب الذين كنت أتمثلهم وهم يشعرون .
وكان للقرآن الكريم الذى حفظته بكتاب القرية، وبالنبع الزاخر الذى وجدته فى علوم الأزهرالشريف وطبيعة الدراسة الفضفاضة والفياضة فيه ما أخذ بيدى إلى دور المحاكاة الذى مررت به واجتزته بالمران والتجربة والصقل، وكنت مؤمنا بالحكمة التى تقول " إحفظ تقل إن الكلام من الكلام" لهذا حفظت من الأشعار ماحفظت، ونسيت منها ما نسيت لكن لحظة الإلهام التى يستبطن فيها الشاعر ما يختزنه لحظة سخية تمده بالكثير من الزاد الأدبى مما هو فى أمس الحاجة إليه، وكانت تستهوينى الدراسة الأدبية ولما أخطأت الطريق إليها بمرحلة الجامعة سارعت بتصحيح المسار الذى تصورت يوما أنه انحرف بى كثيرا عن هوايتى، وفى الميدان العملى باشرت هذه الهواية ومن خلالها صافيت الله عز وجل ولجات إليه وغنيت للقيمة الإنسانية حيث كانت وشدوت للوطن فى كل مواقع الحياة فيه، وواكبت أحداثه بل أهم أحداثه نكساته وانتصاراته، وأحسست بالانتماء لأمتى العربية والإسلامية، ولشدة غيرتى على قضاياها كانت المعانى التى ستقرؤها فى هذا الديوان، لم أكن أحلم بأننى سأخرج يوما ديوان شعر لكن تشجيع زملاء العمل التعليمى والطلاب دفعنى دفعا لأن اتصدى لهذا العمل بكل تبعاته ومسئوليته لأقول بعد إخراجه للقراء هاؤم اقرؤوا كتابيه، وعكفت على أوراقى الخاصة والتى تناثر بعضها هنا وهناك ولم أعثر لها على أثر مكتفيا بما وجدت منها موازيا بين هذا العمل الشاق ومشاغل الحياة اليومية المتكاثرة يوما بعد يوم حتى استطعت ان أنجز ما قصدت إليه، ولظروف لاأعرفها ولا أفهمها ظل هذا الديوان حبيسا بأدراج  إحدى الهيئات العامة طيلة خمسة عشرة عاما أو يزيد! ..
والديوان كما ترى تنتقل فيه بين الخواطر الدينية والوطنية والاجتماعية وفق طبيعة المعنى الذى يحمله الثوب الشعرى الذى جئت به، واستأذن فألفت نظر القارىء الكريم إلى أن يد المعلم التى تهوى تناول الأدب وتباشره دراسة وتحليلا وتأليفا لابد وأنها يد قادرة تتجه بكل طاقاتها وجهة واحدة نحو تجويد العمل الذى تضطلع به، ولعل مابين  يديك من أشعار يصادف هوى فى نفسك وقد يقتضيك فى مجال الدراسة والنقد – إذا كنت دارسا – أن تقول فيه شيئا ولو بمنظار الرؤية الخاصة، وحسبى أننى قلت ولم أكتم فى بحار النفس أصداف الكلام، وإذا دعتنا طبائع الأشياء إلى عمل آخر مماثل فنعد بمدد من الله – بأن يكون أكثر إعجابا، وأعظم إجادة  فهذه سنة الترقى والطموح، وأحمد الله مبدع الأشياء وملهم النفس ... فجورها وتقواها" (1)
والشاعر فيما سبق يتحدث عن الشعر من وجهة نظره كمفهوم وتجربة ومعاناة تحتاج إلى صقل وتهذيب ويمكن من خلال هذه المقدمة الضافية أن نقف على مصادر التجربة عند الشاعر والتى تشكلت منها تجربته العامة والمؤثرات التى تكونت منها عقيدته الأدبية وثقافته وشخصيته، والملاحظ أن النشأة الدينية الأولى والدراسة الأزهرية والقرأن الكريم والتأثر بالتراث العربى الأصيل هى مصادر أساسية للتجربة عند الشاعر " محمد سليم الدسوقى " ، التى تشكلت منها شخصيته الشاعرة وتأسست منها قريحته وعبقريته الشعرية، وهى فى نفس الوقت مؤثرات وملامح عامة يدركها القارىء ويقف عليها المتابع فى يسر وسهولة،ومن بين هذه المصادر والملامح والمؤثرات تستطيع أن تلمح اتجاها أدبيا أصيلا، وترتسم فى مخيلتك ملامح إنسانية لشاعرعربى مصرى أصيل قرأ ووعى، وعبر وترجم فكانت آهاته زفرات تأملية وصيحات غنائية لها وقعها وصداها فى عالم الشعر وفى محيط الوجدان والنفس والشعور يؤكد ذلك ما ورد فى مقدمة هذا الديوان " صلوات على زهرة الصبار " للدكتور فوزى عبدالرحمن حيث قال متناولا التجربة والشاعر :                                              
" صلوات على زهرة الصبار" ديوان جديد وفريد لشاعر مبدع مبتكر ينم عليه شعره الفاتن، وتشير إليه شاعريته الموهوبة، وقصائده الراقصة المتألقة، شاعر لم يلتفت إليه النقاد، ولم تعن به وسائل الإعلام، ولم يصنع لنفسه شهرة وكادت الأيام ان تنساه وهو فى الحقيقة مذكور مشكور ولكن الفن لايموت، والموهبة لاتنسى والإبداع لايضيع، وهنا فى هذا الديوان " صلوات على زهرة الصبار" نلتقى بالمقدرة اللغوية الكاملة، وبالموسيقى الشعرية الأصيلة، وبالتجربة الشعورية الخالصة وبالصور الجزئية والكلية والممتدة والمتداخلة الفاتنة المستمدة من الكون والحياة، والطبيعة والقرية الغارقة فى أحضان الفجر وأضواء الأصيل وسكون الليل والأشواق الضالعة بين شطآن الأصيل وسكون الليل والأشواق الضائعة بين شطآن وماء والتى يحملها الزورق المحمول والشاعر " محمد سليم الدسوقى "  مدير التعليم بإدارة ديرب نجم التعليمية لايفوته روعة النظم،ولا تتخطاه بلاغة الأسلوب ولاتتجاوزه حلاوة الصورة، شعره لحن جميل ينساب فى أذنك سحرا، وزهر نضر يسرى إلى وجدانك عطرا، وعقد نضيد من الأخيلة والمضامين والأفكار والمعانى تخشى أن يلمسه بنانك فينفرط عقيانا ودررا.. يغنى للكون والطبيعة وللحياة وللقرية الهاجعة فى حضن الليل الساكن، وللشمس تشرق بأشعتها فترشق دررها المقروءة وتغسل عنها أحزان الحياة من حولها وينظم قصائده صلوات وابتهالات ومناجيات فى محاريب الجلال والجمال، ويكتب أياته أنغاما ثائرة حائرة شجية تهيب بالنوام أن يستيقظوا، وبالوطن أن يصنع المعجزة، وبأمة العرب أن تؤمن بأنها بالدين خلقت للمجد والسيادة والريادة .
فى "صلوات على زهرة الصبار" :
1- يحدثنا عن نزعة صوفية رائعة فى :
            آويت للمحراب أحضن قبلتى     وأصون حبى تلك غايات المنى
            فلبست ثوب الطهرلاألوى على   شىء هنالك غير غفران وعطف
                     إيمان كامل – عقلية صافية – شفافية واضحة ..
و يقول فى مناجاة أيضا :
          فى بحار التيه ألقيت الشباكا   واجتررت الصمت مخنوقا مشاكا
          مذنب يارب يشكوك إليك       فاقبل الأعذار وامنحنى هداكـا
2- حائر مع رفيقه وقلبه والشراع الغاضب والليل يدور والمجداف والدنيا، فإذا أراد أن يستريح من حيرته أوى للمحراب والقبلة .
3- والموسيقى الرائعة :
                            علّم الطير لغاه    عطّر الزهر شداه
وتكرارها :
                كلما طاوعت نفسى عذبتنى   ماوجدت الخيرإلا فى رضاك
                ياإلهى هاهنا أنت وقلبــى   حائر يبكى، وما يوما تباكى (2) 
ويقول الدكتور "حسين على محمد" مقدما ديوان " طقوس الليلة الممتدة " وهو الإصدار الثانى للشاعر: "منذ مدة يسيرة أصدر ديوانه الأول بعنوان " صلوات على زهرة الصبار" وهذا حصاد عمر آخر من الإبداع والمعاناة والرؤية المتوهجة بالعطاء، ستلحظ أن أدواته تطورت كثيرا، ونضجت وأعطانا من قطوفها هذه الصفحات التى تقيم للشعر الحقيقى موسما فى زماننا الذى اختلطت فيه الأصوات، واللاحقون يعزفون على أوتار السابقين!.. " محمد سليم الدسوقى " : شاعر اختار أن يغامر فى دروب الحداثة فجاءت كل قصيدة من قصائده نسيجا متميزا تحمل طوابع صاحبها الخاصة فى رؤية مناضلة، واثبة آملة، وأداء يجمع بين الأصالة، وروح المغامرة فى دروب الجديد.." (3)  وقد فاجأنا الشاعر فى هذا الديوان بعرضه لأول تجربة مسرحية له وهى المسرحية الشعرية " سلام الله يا أمى " وهى مكونة من أربعة مشاهد، يقول فى المشهد الأول وهو فى البيت بين الأبناء عمرو، ورضوى، وأسماء، وقد قرب "عيد الربيع"- عيد الأم- الجميع  يتسابقون  فى جمع مدخراتهم لشراء الهدية لأمهم فرحين بقدوم العيد وقبل العيد بيوم واحد جلسوا فى شرفة البيت يتحدثون :
عمرو لأخته الكبرى رضوى، والصغرى أسماء:
تهادى اليومُ يارضوى
وذاع السّرّ والنجوى
وجاء العيد..
مزهوّا
يزف الزاد ...
والحلوى
وأنت حبيبتى أسما..
ء تلقين الصدى نشوى
وكم للعيد من معنى
وكم فى الدهر...
... من سلوى
ولكن فى لياليها
رعيْنا الحب...
والتّقوى
سيشرق فى غدى ...
عيدى
وأبلغ غايتى القصوى
فماذا فى حنانيْكم
يمثّل...
رغبةً تنْوى
وهذا اليوم يا أختاى فيه
الشمس لا تُطوى!
سأبدى كل ما عندى
وقسمى بينكم ...
أقوى
وأطلب من أبى عوناً
أراه أمَّنا يهوىَ ...
أسماء :
لماذا الأبّ يعطينا
وهذا المال يكفينا؟
جمعنا جُلَّه قرشا
إلى قرش ....
فأُثرينا
وخذ ياعمرو من رضوى
من الأوراق...
عشرينا
وضم المال للمال
تشدّ يديك أيدينا
لنهدى أمنا حبا فنرضيها...
وترضينا
وهيا إخوتى نمضى
إلى القماش ...
يحذينا
فهذا يومنا يقضِى
وأخشى أن يجافينا
وتيكم أختنا الكبرى
تزيّت بردها...
الحينَ (4) 
وفى ديوانه الثالث  " الحب فى زمن الرمادة " تأخذ الصورة الأدبية إطارا جديدا من التعبير، حيث يقدم الشاعر صورته الداخلية ويشرح كثيرا من تكويناته الأدبية، ويعرّج على ماضيه وأسباب نبوغه وتفوقه الأدبى، والملاحظ أن الصورة الموضوعية قد أخذت حظها فى النمو والاكتمال وفى ذلك يقول الدكتور يسرى العزب فى مقدمة الديوان : فى زمن المسغبة، عصر الرمادة، هل يكون شعر؟! وإن تجاسر شاعر أو شعراء فصوروا.. فهل تنفع القصائد ؟! يقول : يجيب الشاعر " محمد سليم الدسوقى "  فى أصغر قصائده (قصّة قصيرة) : نعم يكون الشعر لزوما وحتمية تاريخية ويكون التعبير بالصورة سلاحا يحفز إلى الحلم ويدفع به للتحقق .
قصتى الأولى
وأحلامى الجميلة
وحكاياتُ المنى
تحبُو قليلة
قَسْطُ أمى
وأبى ينفح دونى
وتراثى دفترى
قلب طفولة
هى ما أحدثت
ما أحببت
ما قد كان جدى
يزرع القربى
ظليلة !
يقول الدكتور يسرى العزب معلقا : هنا يضع الشاعر بذور الخصب الذى يوقف زحف المسغبة ويقضى على طغيان الرمادة، والبذور هنا قيم نبيلة ضيعها العصر فكانت المجاعة، وكان الجدب، هى قيم الأصالة التى تكتسبها الأجيال منذ طفولتها من الأباء تمنح مكتسبيها القوة على المقاومة (5) والدكتور العزب ينظر إلى تجربة الشاعر من منظور الأصالة والتعبير بالصورة الشخصية الذاتية واستعراض الأحوال والمكونات التى أدت إلى ظهور التجربة، ويفرق بين التجربة عند شاعرنا وعند غيره من الذين يكتفون  بالقول دون التأثير. 
وفى ديوانه الرابع " قطرات العشق الإلهى " يتجلى الوجه العاشق لـ " محمد سليم الدسوقى "  وتبدو النزعة الدينية الصوفية أكثر جلالا وإشراقا، وتتركب التجربة من وصلات العشق الروحى الإلهى، فى موسيقية عذبة، وصور رقراقة يختال فيها الشاعر روعة وقربا وجمالا، يعكس فيها ثقافة دينية واسعة وصدقا  شعوريا  جميلا، ومناجاة العاشق النهم، كل ذلك بجانب القيم الروحية الموضوعية الواثبة، والمقاطع  التصويرية العميقة والمركبة من الحس والشعور يقول الدسوقى :
فى قصيدته " ويعشق فى الله أحبابه " :
شجيْرات عمـرى وأيـامُه     وطوفان صــبرى وغيضانُه
           ربيعا صبوت، خريفا حبوت    تكـحّل عينـىّ أوراقـُـــه
          ألا. كم لبست بياض الثيـاب    وكم يطفىء الثوب أدرانـــه
          وكم يبهج النفس صبح الحليب   وكم يزعج الليث أوصابـــه
 إليك تهلل كل الغيـــــوب    ويعشــق فى الله أحبابـه(6)
ويسير الشاعر فى الديوان على هذا المنوال، من القرب والتقرب، معتمدا على الصورة النفسية العميقة، ذات الحضور والانفعال الذاتى، الذى يجمع بين جمال الصورة، وجلال المعنى، وهو يؤكد ذلك فى إهدائه الفريد الذى يتوافق مع التجربة، ويتوافق مع نزعته وصوفيته الحالمة، يقول فى الإهداء : إلى اللـــــه .. ولدينى وإنسانيتى .. ثم لمجلة الأزهر الغراء والتى سعدت بنشرها للكثير من هذه القطرات تحت عنوان " الشّذى والعبير " ..، والإهداء هنا يعبر عن مسؤلية ومصارحة مسؤلية الكلمة التى يقف بها الشاعر أمام الله مناجيا ومستنجدا ومخاطبا ربه الكريم أملا ورجاء فى تحقيق القرب، ومصارحة بالتقصير والهنات التى تعلُق بكلّ منا، وتلك المكاشفة والمصارحة لهى مقياس الشجاعة عند العبد ومدار الغفران عند الله تعالى، ويقول الشاعر فى مقدمة الديوان تحت عنوان " رؤية إبداعية " متحدثا عن التجربة الدينية فى هذا الديوان ومدى تأثيرها فى نفسه : شاءت إرادة الله وعطاؤه الإبداعى أن يظهر هذا الديوان " قطرات العشق الإلهى " بعد رحلة طويلة من العطاء والمصاهرة الأدبية أنجبت دواوين ثلاثة هى :
1- صلواتٌ على زهر الصبار 2- وطقوس الليلة الممتدة 3- والحب فى زمن الرمادة . وقد ظهرت ثلاثتها فى وقت واحد تقريبا، والواقع أن الامتداد الفعلى لإبداعها قد استمر زمنا طويلا، منذ أواخر الستينات وحتى زمن ظهورها، ولكن فكرة الطباعة تأخرت كثيرا عن زمان الإبداع، أما هذا الديوان فقد جاءت فكرة إبداعه عقب ظهور كامل هذه الدواوين الثلاثة مباشرة، حيث رؤى أن تتوج هذه الأعمال بعمل أكثر قربا من الله الخالق المبدع لكل الأشياء وحيث الأعمال السابقة لم تشبع نهم النفس الإنسانية، الباحثة عن جلال الله وعظمته فى الخلق وفى الكون والذى جاء مخفرا تحت شال الوطنية والمجتمع ومعالجات النفس والأخلاق والسلوكيات الهامة فى الأعمال السابقة وفى رؤية قليلة من الوقت، وكثيرة جدا من الفكر والتأمل والتعمق فى خبايا النفس الإنسانية ودخائلها، وكذلك إعمال العقل واستشفاف المواقف والمشاعر الدينية والإنسانية وعالم الطبيعة الكونية، وما وراء الطبيعة، وما لم يستطع القلم أن يميط اللثام عنه ويكاشف نفسه به، ويجاهرها بأغواره فقد ادخرت ذلك ريثما يحين الوقت وتتهيأ اللحظة التى يجود الإبداع بها وهو مسوق سوْقا إلى نافذة الواقع يطل منها على عالم الحياة والأحياء وعلى  مآقى العيون، وشفافية الوجدان، وقد جاءت هذه الإرادة ونمت تحت تلك المشيئة بهذا الديوان الجديد، الذى بين أيدينا وفى صورة خاصة وبشكل جديد بالنسبة لدواوينى السابقة على الأقل ومنذ الكلمة التى قدمت بها للقارىء الكريم " صلوات على زهرة الصبار" وتحت عنوان : " هذا الديوان الذى بين يديك " أقول : منذ هذه الكلمة لم أقدم لباقى الأعمال والتى تفضل الزملاء الأكارم بالتقدمة لها مشكورين : الدكتور " فوزى عبدالرحمن "، والدكتور " حسين على محمد"، والدكتور " يسرى العزب " وقد حظيت من أساتذتى هؤلاء بالتشجيع المستمر والدؤوب على مواصلة مسيرة الإبداع، خاصة الدكتور " حسين على محمد "، والدكتور " يسرى العزب "، وأخى الدكتور " صابرعبدالدايم "، والدكتور " أحمد زلط "، وأخى الأستاذ " بدر بدير"، وكثيرمن الإخوة زملاء العمل الإبداعى.
أما أستاذى ومعلمى الأستاذ الكبير الدكتور "محمد عبدالمنعم خفاجى" فقد تلقيت العلم على يديه بكلية " اللغة العربية " جامعة الأزهر فى أوائل الستينات رحمه الله ونفعنا بعلمه وأعماله التى أثرت الأدب العربى والثقافة العربية والإسلامية بعامة فقد أفسح لى بدار رابطة الأدب الحديث بعد قراءته لديوانى الأول " صلوات على زهرة الصبار " وخط لى رسالة اعتبرها وثيقة حب وتقدير واحتفظ بها مع وثائقى الخاصة أسكنه الله فسيح جناته بقدر ما قدم للغته ودينه وأمته.. آمين .
وذلك على قدره ومنزلته فهو من هو فى عالم النقد والأدب البلاغة والرعاية الأدبية لأحبابه ومريديه حتى ولو كانوا من جنوب شرقى آسيا كما رأيت بعينى فى الكثير من الأمسيات حيث يجتمع عليه تلاميذه من الهند والباكستان، وكذلك من العراق ومن سوريا، بل ومن كل أنحاء الوطن العربى والإسلامى وقد حرصت أن أضع صورة ضوئية لهذه الوثيقة بين حنايا كتبى وأوراقى فهى بخط أستاذى .. الخفاجى.
وكذلك أخى الشاعر الأستاذ " محمد على عبدالعال "  أمين الرابطة وكذلك الشاعر والناقد الكبير الأستاذ/ عبدالمنعم عواد يوسف لهذا جاء الديوان بسمت خاص : معالجات أدبية لمواقف دينية وإنسانية جمعت أفكارها بمساعدة الزملاء وقد جاءت فى إطار نسق واحد على مدى مائة وعشرة أفكار على شكل  خماسيات  مع التصريع، واختيار القافية المناسبة وربط الموقف بعد الإشارة إليه إشارة خفيفة، بخالق هذا الكون من زاوية هذا الموقف المعين .
وكذلك التنويع فى القافية وتعدد المواقف والأفكار التى جاءت بالديوان وهى كثيرة ومتنوعة وربما إذا سنحت الفرصة، وتهيأت الظروف وأراد الله  تعالى أقول ربما نعود إلى عمل أخر مماثل لأفكار أخرى مماثلة، وهى كثيرة وشيقة ويمتلىء بها هذا الكون الفسيح من ملكوت الله، وأستأذن القارىء الكريم فألفت نظره إلى أن عناوين هذه الأفكار خضعت لمقاييس الجمال فى العنوان، فما يحسن فيه شطر البيت واقتنعت بجماله كتبته، وما لم يصلح كتبت له العنوان الذى أتوقع استحسانه، والحقيقة أن ما أشار إليه الشاعر من خصوصية العنوان يعد توظيفا أسلوبيا وتصويريا لافتا للنظر ودافعا للتأمل، فالعنوان هو الشطرة الأولى من البيت الأول فى معظم القصائد، وهذا يدل على أن دلالة العنوان هى نفسها دلالة الصورة الافتتاحية فى النص، وتلك مزية تختصر كثيرا من مسافات الفكر والتأمل  فى الصورة حيث تجعل القارىء  مباشرة فى النص يقول الشاعر :
ضرعت إليك أمدّ اليـــدا    وأركض فى جنبات المدى
نشيداً يدمدم هُوج الريـاح     فتملأ ورد الليالى نــدى
             وتـورق فى القلب أمنيـّة     فتزهر ملء عيونى هُـدى
وتضطرم السفن فوق العباب   وتختلج الشهب عند النّـدا
     إليك وما الغوث إلا إليــك   وما دون غوثى إليك الردى (7)
وفى ديوانه الخامس " شال القطيفة والبندقية " يصحو الوطن وينهض الحس الجهادى النبيل، وتنعكس فى أنحاء التجربة ثورة الشاعر ويقظته وتعبيراته التى تشمل الوطن الكبير، فنرى صورا مشرقة وبطولات متوالية، ونرى حسرة وكمدا على ضياع الحق وغياب الوعى وتناسى الواجب المقدس، والديوان فى مجمله انعكاس للتجربة الوطنية، وللوعى البطولى واستنهاض للهمم، وشحذ للنفوس.
 يقول الشاعر فى قصيدته" شال القطيفة والبندقية " التى تحمل عنوان الديوان:
(1)
تمُور على شفتيك الهوية
ويُستشهَدُ السحر...
والعطر..
والبحر...
والدهر...
والريح، والروح، والأمنيات
وتبقى هنا...
عندنا...
فوقنا...
بيننا الذكريات
وشدوُ القضية
يامجدلية. 
(2)
تعالىْ لغيطك...
بين الكروم...
وبين الهموم...
وحبات تمرى...
وعرجُون صبرى...
وتبغى المعتّق...
فرشَاة صبْغى...
تلوّن مهجتها بالدماء...
السجينة خلف الحصون...
الغصون...
المنون...
اللواتى تمنطقن...
شال القطيفة...
والبندقية...
يامجدلية.
 (8)
والتجربة الوطنية عند الشاعر لا تقف عند حدود الاستلهام للأحداث الداخلية، بل تتجاوز هذه النظرة إلى أفاق بعيدة من التعبير، تشمل الفضاء الخارجى الممتد إلى أبعد مدى، على مستوى الموضوع والتصوير، وترجمة المشاعر والأحاسيس العامة والتعبير عنها وتحويلها إلى ترجمة خاصة، كذلك استوعبت التجربة الوطنية والقومية لدى الشاعر العديد من الرموز والشخصيات والأحداث التى  سطرت تاريخا مشرفا وتركت سجلا حافلا من الإنجازات على مستوى الوطن وخارجه، وخاصة القدس وفلسطين وأبطالها  نساء  ورجالا. 
وفى إصداره السادس الذى أبدله بالديوان الخامسَ عشرَ الأثير إلى نفسه " ريهام نوار الفصول " والذى ستقوم عليه الدراسة بالنقد بالتحليل، يقدم الشاعر نفثة شعرية حارة تموج بالعاطفة والوجد، وتنفعل بترجمة المشاعر النبيلة تجاه ابنته " ريهام " وهى فى مرضها، حتى جاء الديوان فى مجمله دعاء ورجاء وأمنية بالشفاء، ولكن إرادة الله سبقت، ولم يكن من الشاعر إلا أن سلّم لإرادته سبحانه وتعالى راجيا لها العفو والغفران، راضيا بالصبر والسلوى، أملا فى العفو، وطمعا فى الرضا، يقول الشاعر فى قصيدته " ياأميرة " فى المقطع الأخير :
أميرةُ ..
شيختى دقّت حصى المرجان والرّاحِ
وصبت كأسها المعروق...
للممسى وللضاحى!
وقد تلقاك ثانيةً..
وقد تلقاك ترتاحى!
فحطى فألها المعهود فوق سريرك الأبيض
وفوق نهارك الأبيض!
لعل حبيبتى الشماء من فرط الهوى...
تنهض!
وتملأ عندما تاتى...
رحابى...
جنتى..
ساحى!! (9)  
وفى دواوينه التى صدرت مؤخرا " تنهدات الريح " و " وازمان الوصل بالأندلس " و" مواجيدى " و" تغاريدى " ينطلق الشاعر نحو أفاق أرحب من التعبير، حيث تتعمق التجربة، وترحل بعيدا على مستوى التاريخ والدين واستلهام الموروث، ويبدأ الشاعر مرحلة جديدة من الشعور والوجدان، يقدم من خلالها ثقافته الواسعة وتطوافه عبر الأفكار وعبر الأحداث، يستحضر الذكريات البعيدة، ويستنطق التاريخ المجيد، ويعبر عن شاعرية عميقة، وعبقرية فى الإبداع، وهو فى كل ذلك  يقدم العبر والدروس، ويعد بالنصر، فى هدوء وفى غير تشاؤم، دون صراخ أو نحيب، عاشقا للكلمة، ومفجرا عطرها، وململما شعاثها، وباعثا فى الشعر نهضة جديدة، تقوم على جسر من الثقافة والفكر وموائمة بين الماضى والحاضر، والأصالة والمعاصرة، يقول الشاعر فى قصيدته " أعشقُ جداً " من ديوانه " تنهدات الريح " :
1-
ياسيدتى:
لون خمارك لا يعجبنى، لا يجذبنى...
همس عذارك لايطربنى...
قد لا أفهم فى الأصوات وفى الأصباغ...
وفى الألوان
ولكن أفهم جدا فى الفستان،
وفى البستان...
وزهر العوْسج
ورْد العسجد والرمان، بهاء الظل..
ضياء الفل، وزهو الفرقد..
ومْض النار، خنُوس الكوكب
أفهم جدا ياسيدتى
شجوَ البلبل..
والوروار، وسجع الزعتر، والنوار
ورجع البيدر، والغزلان،
صليل الحاَن، الجان ..
هديل الجُندب
أفهم جدا لما همس الطل على أفياء
حديقتنا..
يتهدج
أفهم أن بهاء النشر يضوع بنفسج
لما ينصهر الموال ويزدهر الولوال..
أعود فأفهم جدا أن رواء الليلة ..
شطر رواء الليلة – ينفث عوسج  (10)
وليس غريبا أن تبدو شخصية الشاعر وتبدو منطقيته فى ترجمة الأشياء، التى تعبر عنا جميعا، وتستوعب مشاهد الحياة من حولنا، وتعيد قراءة الواقع من جديد، وإذا انتقلنا إلى قصيدة أخرى  للشاعر من ديوان آخر نرى ذلك أكثر وضوحا  فى مشاهده الأندلسية، يقول الدسوقى فى قصيدته " دُلّى الحمَامَ على بريدى " من ديوانه " وا زمان الوصل بالأندلس" :
يابنت شيخى فى العهود   دلى الحمام على بريــدى
مزدانـــةٌ كـل الكرو   م بما تأجج فى جليــدى!
حطّى شواردك التــى    تاهت على غيطـى وزيدى
وعلى وريْقات الصبـا    ح ونجمة الفجــر الجديد
على عبير البرتقـــا    ل بطاقتى نشـوى وعيدى
عينى على طوق الحمـا   م وعشــه أو ماتريـدى
   ماشئت لى أن تكتبــى    ان تخطبى وُدّ الودود  (11)
والديوان كله يسير على هذا النهج يستدعى فيه الشاعر ماضى الأندلس، ويبعث التاريخ العربى المجيد مرة أخرى، وهى كلها موضوعات تعبر عن استيعاب كامل لثقافة هذا الشاعر الفذّ، الذى يحاول استنهاض الهمم، والتنبيه على معالم الأندلس، التى مازالت باقية حتى الأن .
وفى ديوانه "مواجيدى" يترجم الشاعر وجدانه وأشواقه وأحاسيسه شعرا عذبا رقراقا جميلا، ويعبر عن عاطفته الجياشة تعبيرا موضوعيا مطلقا، يمثل الشاعر فيه نفسه، وعالمه الخارجى يقول فى قصيدة  " قطْرٌ من الوجْد " :
رأيتُكِ والفجـر فى شرفتـى   وظلّ الصباح على ضحوتــى
ومُنعرج الظلّ فى الخافقـات   يذوب كما العطرُ فى الــوردة
وينشطر الخفق فى نجمتيـن   تجاوزتا فى السّنا فرحتـــى
وتشدو الحياةُ كما قد شدوْتُ   ورقّصت الوجد سبابتــــى!
         ووحدت الله رب الوجــود    ورب التفرد والوحـــــدة   (12)
وفى ديوانه " تغاريدى " يقدم الشاعر تجربة دينية تاريخية تعبرعن ثقافة إسلامية واسعة واستلهاما لتاريخ المسلمين الأوائل، والشاعر يقرن الموضوع بالصورة فى هذه التجربة، ويقرن الذات والشعور بالأمل الذى يحدوه، من رحلته التطوافية فى أماكن وربوع العهد الأول، والمتأمل فى عناوين القصائد التى ضمها الديوان  يجد أن الشاعر مهموم بدينه وإسلاميته، وشغوفٌ بأمور عقيدته، ليس على مستوى الانفعال الذاتى، وإنما على مستوى النزعة الإصلاحية المتطورة، وقد بدا ذلك من عملية الاستلهام التى شملت الأشخاص والأماكن، والسيرة العطرة لخير خلق الله  صلى الله عليه وسلم، ولصحابته الأخيار رضى الله عنهم ورضوا عنه، وكذلك تبدو التجربة هنا مليئة بالانفعال والشعور وتعكس وجداناتٍ  وشعوراً متشذراً  يجمع بين واقع النص والتجربة وبين ذات الشاعر وعملية التركيب للصورة التى جاءت مزدوجة تجمع بين التصوير الشخصى والموضوعى والجغرافى، مما جعل هناك حوارا داخليا يسمو ويعلو مع ضمير النفس، ويطرح عدة مفاهيم مختلفة، منها ما يعود على توصيف التجربة لدى الشاعر، ومنها ما يعود على واقع التعبير ذاته، وعملية الاستلهام للصورة التراثية الموضوعية، ومنها ما يعود على الصورة الخارجية التى تشمل المتلقى والحياة التى  يمثلها الشاعر ويعبر عنها، والحقيقة أن الشاعر من خلال هذا الديوان، والدواوين السابقة يقدم لوحات من التعبير التى تمثله تمثيلا دقيقا فتعكس نفسه ومشاعره وأحاسيسه وثقافته وتكوينه الأدبى، وتعكس طموحاته التعبيرية ورغبته الأكيدة فى التدرج والرقى نحو ارتياد آفاق جديدة من التعبير.
 ويمكن القول أن الشاعر الدسوقى بما قدمه من أشعار ودواوين مطبوعة ومخطوطة، يحتل مكانة بارزة تجعله فى الصدارة  بين  شعراء عصره، ليس لأنه قال فى جميع الأغراض فحسب، أو لكثرة إنتاجه وإنما للعملية الدقيقة التى يقوم بها فى تجربته، حيث يمثل ذاته وعصره وتاريخه ويقيم حوارا ضمنيا بين النص وخارجه، هذا الحوار لايغادره الشاعر بل يظل مواكبا له يحكم قبضته على موضوعيته وتراكيبه، دون إقحام أو ملل، هذا بخلاف التكوين التصويرى الذى يجمع بين معالم النص، وبين التكوينات المختلفة للحقيقة التى يمثلها النص، فترى عنده الصورة الفردية والمزدوجة والمركبة، والشخصية والداخلية والخارجية، وترى عنده الصورة الانفعالية، والتراثية والكونية والطبيعية والزمانية والمكانية إلى آخره والتى سيأتى الحديث عنها فى حينها إن شاء الله تعالى
يقول الشاعر فى قصيدته " تغاريدى" التى تحمل عنوان الديوان:
على الأعراف تغريـــدى   وشدوُ حلاوة العــود
  وولدانٌ على الحيضـــا    ن والكيزان والجــود !
وأنهارٌ من الصبــــو     وحبات العناقيـــد !
وسحر الحُور والنّـــور    وبدرالتيم والغيـــد
على صبرى وموالـــى    وجلجال الأناشيـــد
وزهوى فى شرود الشمـ    س إخلادى وتسهيـدى
       وحورياتُها ولِهــــتْ      وغيط جُمانها يـودى! (13)
ونخلص من ذلك كله إلى أهمية التجربة لدى الشاعر، هذه الأهمية تتعين من خلال الموضوعات التى نظم فيها الشاعر، ومن خلال المصادر التى استقى منها تجربته، التى استغرقت زمنا طويلا بحساب السنين والأيام، وبحساب الطرح الإبداعى و شملت نحو إحدى وعشرين ديوانا، منها عشرة خرجت إلى النور والباقى مازال حبيسا ينتظر النشر وهو قريبٌ إن شاء الله، وما يلفت النظر فى هذه الرحلة الإبداعية أن القارىء يستطيع أن يقف على حقيقة الشخصية الإبداعية، عند شاعرى ويستطيع أن يقف على بعدين هما من مصادر التكوين الإبداعى والشخصى لدى الشاعر وهما الملمح الثقافى اللغوى  الأدبى  لدى الشاعر، والملمح الشخصى الإنسانى المتمثل فى الصدق والموضوعية، والملمح الثقافى تبدو مظاهره فى عملية التجديد التى قادها الشاعر فى أسلوبه وتوظيفه للألفاظ العربية الأصيلة توظيفا ينم عن ذكاء وبصيرة بحال الواقع، ومحاولته التقريب بين دلالة الكلمات الاستعارية ذات الشحنات المكثفة، وبين صورة الواقع وتمثيله تمثيلا واعياً يجعل من الأسلوب صلة مباشرة بين الحاضر ومظاهره وتطوراته وبين التراث الأدبى اللغوى الصحيح، والملمح الشخصى الإنسانى الذى بدت مظاهره فى الصدق والموضوعية، التى نسج منهما الشاعر خيالا وطيفا جميلا رقراقا يحتوى النص والواقع والذات، دون أن يكون مقرا للحقائق المادية فى صورتها الواقعية، ودون أن يفقد الشعر عاطفته وسموه وخيالاته واستعاراته وتشبيهاته، وكان من مظاهر ذلك أن رأينا ترجمة حقيقية لصور تراثية وأشخاصاً وأنماطاً مختلفة، جاء بها الشاعر فى  صورتها مقرباً بين الواقع وبين الهدف الإنسانى للنص .

القسم الثانى
الصورة الموضوعية
1- تمهيد :
الدلالة الأولى لمجموعة العلاقات التى تفرزها هذه النصوص مجتمعة، تفرض وجود علاقة حقيقية، بين الباعث للفكرة وبين المعادل الموضوعى الاجتماعى، فى دلالة هذه الصور، باعتبارها نصوصا خارجية تعبرعن فلسفة الشاعر فى تكوينه لتجربته، وإثارة العواطف النفسية والواقعية الاجتماعية فى المتلقى، وليس من شك فى أن العلاقة بين الأسلوب والصورة، علاقة المبنى للمعنى  وعلاقة  الذوق  الذى ينجم عن التأثيرات النفسية الاجتماعية التى ترتبط  بالموضوع والفكرة، ومدى تطبيقها أو تراجعها أو قصْرها على بعد واحد  دون آخر فى النص والصورة  من هنا كان للأسلوب مكانته الأصيلة فى دلالة الصورة وارتباطها بالشاعر ارتباطا ماديا وظيفيا .
وهذا ماحاول " ابن خلدون " التنبيه عليه والتأكيد من خلاله على مدى العلاقة الفطرية بين الأديب والمجتمع الذى يصوره وينفعل به، وينقل أحداثه شعرا مترجما فيه مشاعره وانفعالاته المكتسبة فطريا من العوامل المحيطة به، وتلك رؤية مكتملة لوجهة النظر الاجتماعية التى أراد المفكر العربى أن يؤطر لها، حتى أصبحت فيما بعد أساسا لنظرية الاجتماع  فى العصر الحديث، ومن يتعرض للدلالة الأسلوبية  من وجهة النظر الاجتماعية  يدرك  ذلك، ويدرك أن الصلة بين النص  والمجتمع تقوم على الفكرة الموضوعية التى تعبر عنها الألفاظ، وعلى ذلك تصبح الصورة من أهم معطيات الأسلوب، ومن أهم الدلالات التى تنقل الوصف المجتمعى نقلا أمينا يجمع  بين الحكى الداخلى، المتمثل فى المنولوج، والأحاديث النفسية الداخلية، وبين وجهة النظر الشخصية للأديب والموضوع الذى يحاكيه، وفى ذلك يقول ابن خلدون : " الأسلوب عبارة عن المنوال الذى ينسج فيه التراكيب أو القالب الذى يفرغ فيه، ولا يرجع إلى الكلام  باعتبار إفادته أصل المعنى، الذى هو وظيفة الإعراب، ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذى هو وظيفته العروض، وإنما يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية، باعتبار انطباقها على تركيب خاص" (14)
ومما لاشك فيه أن النزعة الاجتماعية والخصائص العامة التقليدية للفن والذوق العربى الأدبى هى التى كانت وراء هذا القول، ووراء الدافع النفسى الذى يربط  بين النزعة الأدبية والنزعة الاجتماعية للأسلوب عامة، وهذا يثير أمام البحث إشكالية العلاقة بين الصورة التى يثيرها الأسلوب عامة وبين النتائج الإنسانية والاجتماعية النى  يفرزها النص .
   وفى المقابل فإن الشعر يقوم على دعامتين هما العاطفة والفكر، والمطلوب كى يكون الشعر شعرا بالمعنى الصحيح ألا يطغى أحدهما على الآخر، فإذا تغلبت العاطفة على الفكر خلا الشعر من أهم ما يميزه وهو المعنى ، وإذا طغت الفكرة على العاطفة أصيب الشعر بالجمود والذهنية وخرج من دائرة الشعر والشعور  إلى دائرة النثر، لذا تصبح المواءمة بين المفهومين واجبة وضرورية. (15)
   تكمن هذه الأهمية فى الوقوف على طبيعة الدلالة التى تطرحها مجموعة العلاقات الاجتماعية التى يمثلها الشاعر، والتى ينفعل من أجلها وبواسطتها وينقل لنا الواقع النفسى والاجتماعى الذى يصور العالم الخارجى تصويرا ينم عن رؤية موضوعية ومدى تمثيله للقيم والصور التى تتعلق بالنواحى الشخصية المشتركة والخاصة.
   وتمثل الصورة الشعرية أقوى العناصر فى تأليف الشعر، بل هى الشعر كما تذهب إلى ذلك أغلب أراء النقاد المعاصرين، ولكن الصورة الشعرية عند المتقدمين هى " شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة فى الوصف والمقاربة فى التشبيه، والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن ومناسبة المستعار منه للمستعارله ومشاكلة اللفظ للمعنى، وشدة اقتضائها للقافية"(16).
 والمتأمل فى النص موضوع البحث يرى أنه يجمع المعنى الشعرى كله وفق مفهوم عربى خالص، نابع من روح الشعر العربى، ومدى تعبيره عن المراحل الاجتماعية التى مرت به دون أن ينفى عنه الصفة الفنية والذهنية التى لابد منها فى محيط النص وخاصة الشعر، من هنا فإن الأسلوب والصورة الأدبية أدوات يستعملها الشاعر فى معالجة الفكرة الموضوعية، وبما أن الأسلوب أداة التعبير الأولى فإن الصورة هى الشكل الدلالى الفسيح الذى ينتج التعبيرات المختلفة، وهى كذلك مجموعة الإدراكات التى ُتصدر العلاقات إلى ضمير المتلقى، هذه العلاقات تتميز بأنها حلقة الوصل بين النص والشاعر والأديب عامة، والمجتمع الذى تنوب عنه وتنفعل به، لذلك فإن العلاقة بين المجتمع وبين الصورة تقوم على ضوابط الأسلوب  موضوعيا وفنيا وذلك لأن الصورة ترجمة لواقع اجتماعى وكيان إنسانى، لاينفصلان بأى حال من الأحوال عن بعضهما البعض، ويرى الدكتور شكرى عياد أن الأسلوب " ربط بين اللغة والإبداع ويعرّفه بأنه كل تلك الصفات التى تجعل لعمل أدبى خصوصية تميزه عن كل ماعداه " (17) وتلك الخصوصية تتعلق بالمرجعية الأخلاقية النفسية التى تحول الخارج النصى المصور إلى واقع أدبى حقيقى ينفعل بالحياة الاجتماعية المحيطة بالنص، والتى تتعلق غالبا بالصورة الخارجية الاجتماعية، التى لايستطيع الشاعر أن ينفصل عن محيطها، أو يتخلى عن مبادرته الإبداعية، وتجربته الخاصة فى ظل معطيات الواقع الاجتماعى الذى يصوره وينفعل به من خلال أسلوبه وحركة التعبير الوجدانية، التى تمثل الباعث الأول للنص  والترجمة والتشكيل الفنى المتداخل فى الصورة  بقسميها الخارجى  والداخلى .
   وقد تناول ذلك الدكتور محمد عبدالمطلب فى كتابه البلاغة الأسلوبية فقال فى معرض حديثه عن الأسلوب وموقف ابن خلدون من العلاقة بين المجتمع والأسلوب وما ينتج عنهما من صور وأفكار أدبية وموضوعية، تساعد فى فهم مدى هذه الدلالة : أعطى ابن خلدون للأسلوب مفهوما ًذهنيا ًخالصا ًباعتباره صورة تملأ النفس وتطبع الذوق وقد أرجع تكوين الصورة إلى مهارة الأديب وما تركته علوم النظام اللغوي في ذهنه وإظهار قدرة الأديب في انتقاء العبارات .(18)
 والنتيجة أن الدراسة النقدية للنصوص والقائمة على الصورة بواسطة الأسلوب تعينت من خلال الوجهة الاجتماعية للغة ذاتها، على اعتبار أن اللغة لها وجهان الأول اجتماعى والآخر وجدانى نفسى، وكلاهما يدوران حول كيفية التصوير والنقل للموضوعات والأفكارالتى تتحول إلى أغراض واتجاهات أدبية وفنية، تساعد فى نقل تجربة الشاعر والتعبيرعنها.
---------------------
الهوامش :
 * لزيادة توضيح هذه المسألة يمكن الرجوع إلى دراسة الأستاذ الدكتور إبراهيم عوضين مدخل إسلامى لدراسة الأدب المعاصر، وكتابى الشخصية الروائية بين على أحمد باكثير ونجيب الكيلانى دراسة موضوعية وفنية.
(1) مقدمة الشاعر " محمد سليم الدسوقى "  لديوانه صلوات على زهرة الصبار ص8،7،6،5،4
(2) مقدمة ديوان صلوات على زهرة الصبار دكتور فوزى عبدالرحمن ص 9-10-11 .
(3) مقدمة ديوان طقوس الليلة الممتدة للشاعر " محمد سليم الدسوقى "  الدكتور حسين على محمد ص 5 .  
(4) مسرحية سلام الله يا أمى ديوان طقوس الليلة الممتدة ل" محمد سليم الدسوقى "  ص 14-15-16 .
(5) مقدمة ديوان الحب فى زمن الرمادة ل" محمد سليم الدسوقى "  كتبها الدكتور يسرى العزب ص 6،5 .
(6) ديوان قطرات العشق الإلهى " محمد سليم الدسوقى "  ص 14.
(7) ديوان قطرات العشق الإلهى " محمد سليم الدسوقى "  ص 9 .
(8) ديوان شال القطيفة والبندقية " محمد سليم الدسوقى "  ص 34 .
(9) ديوان ريهام نوار الفصول " محمد سليم الدسوقى "  ص  45 .
(10) ديوان تنهدات الريح " محمد سليم الدسوقى "  ص 37 .
(11) ديوان وا زمان الوصل بالأندلس " محمد سليم الدسوقى "  ص 25 .
(12) ديوان مواجيدى " محمد سليم الدسوقى "  ص 93 .
(13) ديوان تغاريدى " محمد سليم الدسوقى "  ص 5 .
14)     مقدمة ابن خلدون صـ 129 مكتبة المحتسب
15)     الفنون الأدبية فى مجلة الهلال دكتور نادر أحمد عبدالخالق رسالة ماجستير مخطوطة كلية اللغة العربية الزقازيق صـ 158 .
16)     فن الشعر إحسان عباس صـ 48 .
17)    اللغة والإبداع د. شكرى عياد صـ  135 .
18)    البلاغة والأسلوبية محمدعبدالمطلب ًًصـ32