الجمعة، 25 ديسمبر 2009

العمر خمس دقائق الحلقة الثانية دكتور نادرعبدالخالق

العنوان بين التشكيل اللغوى والخيال العلمى
العمر خمس دقائق دراسة تطبيقية
الدكتور نادرعبدالخالق
(الحلقة الثانية)
مما سبق ومن خلال الرؤية الموضوعية، لمركبات العنوان، كمدلول لفظى وصورة تحتوى كثيرا من إيحاءات التجربة والنص القصصى، يمكن قراءة المعالم الأولى للخيال عن طريق التشكيل اللغوى، ويمكن القيام برحلة استكشافية تحليلية للقضية التى تكمن خلف هذه العلملية الإبداعية، لأن القصة السردية، والخيال العلمى يجتمعان فى ظل وجود دوافع خاصة جدا، منها ما يعود على الكاتب، ويتعلق بالقدرة على استلهام وبعث القضايا فى سياق أدبى خاص جدا، ومنها مايعود على النص ذاته وقدرته الموضوعية والفنية فى السيطرة الوجدانية على تكوين المتلقى .
هذا بخلاف ما يجب أن يشترك فيه الكاتب والنص، وهو التجربة التى يختلف فيها الفكر والمنطق عن معانقة الواقع، دون التهويم فى عالم الغيبيات، وهذا يعنى أن هناك فرق ملحوظ بين التجارب الأدبية ذات الخيال الأدبى القريب،والتى يكون التمثيل الحى المباشر أو المماثل لما نراه ونعانيه هو الدافع الأول وراء خوض غمارها .
إذن هناك فرق بين تجارب الخيال العلمى، وتجارب الخيال الأدبى، هذا الفرق يعد من خصوصيات التعبير النفسى الوجدانى، ويعد ضرورة من ضرورات التمييز بين الكاتب والكاتب، وبين النص والنص، ولأن دراسة الخيال العلمى تقوم على عملية التقصى وتتبع المنجزات وإحصائها، أكثر من دراسة تأثيراتها على الفكر والعقل والوجدان، وذلك بسبب وجود احتمالات كبيرة، تتعلق بعملية الإيحاء والتلقى ومدى انفعال القرىء بها.
من هنا فإن الخيال العلمى مرادف للأفكار التأملية ذات الصلة بالواقع ومرادف لما يمكن تقريبه عن طريق الأساطير التى غالبا ماتكون وسيلة مناسبة لحشد الأفكار العجيبة ومحاولة تطبيقها دون قيود، والأفكار التأملية لها وجودا وحضورا قويا فى الخيال الأدبى، بل إن هناك مايسمى بالنزعة التأملية فى الشعر وفى الأدب عامة، وقد تميز أدب المهجر بهذه النزعة، لكنها انحصرت فى تأمل العلاقات الطبيعية التى ترصدها الحواس البشرية، وهى فى أغلبها تتعلق بالجمال والخير، والبحث عن تفسيرات دقيقة للمشاعر النبيلة فى ضوء معطيات العالم الخارجى وتصوراته الكونية والطبيعية .
وعلى ذلك فإن الخيال العلمى يضج بالانفعال النفسى ويترجم نفس صاحبه ويصف كثيرا من أحواله ومتطلباته، ولايقف عند حدود الواقع العلمى الجاف، بل يتعداه إلى ماهو إنسانى ووجدانى، حيث يسعى أصحابه دائما إلى التأثير المباشر فى المتلقى، ولايكون التأثيرا بعيدا عن الشعور والوجدان والنفس وهى كلها عوامل مشتركة بين أنواع الخيال.
وتأتى دراسة العنوان فى ظل هذه الرؤية لتقدم لنا تجربة نقدية جديدة تربط بين دلالة التشكيل اللفظى وبين عمق الفكرة فى إطار البحث والتجريب الأدبى، بحثا عن القضية التى تتحوصل داخل هذا المدلول العنوانى المتشعب، والوقوف على عملية التوظيف التى قادها الكاتب فى نصوصه.
وفى مجموعة "العمر خمس دقائق" للكاتب صلاح معاطى، ينقسم العنوان من حيث التصوير الإدراكى التشخيصى إلى قسمين الأول قصص : الخيال الانفعالى الاجتماعى
رجلان فى مخزن الفحم نبوءة الشيخ مسعود
مجنون السجين زد
القسم الثانى الخيال الزمنى :
قصص : روبوت الطفرة
العمر خمس دقائق توقفت الساعة
عندما تخطىء المقصلة ما قبل العاصفة
1- قصص الخيال الانفعالى الاجتماعى
وهى قصص تركب العنوان فيها من جملة وكلمة، الجملة جاءت فيها الصورة مركبة من دلالة تشخيصية، وعلاقة موضوعية ومكانية ، والكلمة تكونت فى نفسها من صورة نفسية انفعالية، وقبل أن نخوض فى تفسير هذه العلاقات والدلالات، يجب البحث عن الخيال ووظيفته بداية من التركيبة الأولى للمدلول اللفظى العنوانى،ففى قصة "رجلان فى مخزن الفحم" تأتى الصورة لتؤدى وظيفة خيالية فى المقام الأول، حيث التشخيص والرسم الإنسانى، وحالة الظرفية الناتجة من حرف الجر " فى" وحالة التقريب المكانية ذات العلاقة الخيالية الانفعالية، بين المكان والرجلين.
يقول صلاح معاطى فى قصته " رجلان فى مخزن الفحم" :
" رفع الصبي يده ، قذف بالحجر عاليا ، ينطلق الحجر في الهواء ، يسقط فوق رأسه ، وتندفع الدماء غزيرة على وجهه . واندفع الجمع خلفه وهم يصيحون : مجنون معتوه . اقذفوه بالحجارة . حطموا رأسه" . (1)
ويقول فى موقف أخر:
" انكمش داخل جوال الفحم وهو يقول محدثا نفسه .. ليس لي صديق في هذا العالم . لا بل لي صديق . صديق واحد كان يتردد علي قديما ، أما الآن فافترقنا . لم أعد أذكره . لا أذكر اسمه ولا عنوانه . كل ما أذكره طوله الفارع الذي يتعدى المترين مثلي ، أما وجهه فكانت ملامحه جادة ذو شارب رفيع ولحية صفراء كتلك التي للعلماء وفلاسفة الإغريق . كان صوته عميقا تشعر حين يتكلم أنه آت من الفضاء السحيق . فإذا قال صمتت الأصوات ، وإذا نطق خرست الألسن . " (2)
وتشير الفقرتان السابقتان إلى العلاقة التى يطرحها العنوان وهى الصراع الناتج من وجود شخصيتين متناقضتين، يحاول الكاتب أن يقيم بينهما علاقة انفعالية، وأن يطرح قضية اجتماعية، تتعلق بتفسير الصراع الدائم بين مركبات العلم المادى، وبين التركيبة الاجتماعية التى تقسم العالم إلى طبقات وهمية، تجعل من التدنى عرفا وحضورا، ويأتى الخيال العلمى ليكون بديلا استثنائيا، تتوارى خلفه القضايا الرئيسية، وليس نقطة ارتكاز تفسر الظواهر، ويبدو أن الانفعال الخيالى ليس هدفا سعى ورائه الكاتب، بقدر ماهو فضاء ومحيطا عاما، حاول ان ينفذ من خلاله إلى ترجمة الظاهرة الوجدانية الاجتماعية، التى تفسر قضية الطبقية، تفسيرا رمزيا، وأعتقد أن صلاح معاطى قد نجح فى إثارة الانفعال بواسطة الخيال، الذى يقدم القضية الإنسانية دون أن يطمس المعالم الحقيقية لدوافع الفعل وردالفعل فى مجتمع الخيال العلمى، الذى حاول تقديمه بواسطة الشخصية المقارنة التى تمثل الوجه الأخر للصراع.

وفى قصة "نبوءة الشيخ مسعود"
يشع الخيال من التركيب العنوانى، وتبدو الصورة مركبة من قضية وشخصية بينهما مساحة واسعة من التأمل، والبحث عن الحقيقة التى تحتويها هذه النبوءة يقول الكاتب :
" كان الصباح التالي يحمل لأهالي القرية العديد من المفاجآت .. تحطم الطاحونة ، اختفاء الشيخ مسعود ، العثور على جثة الحارس العجوز بالقرب من حطام الطاحونة ، أغرب هذه المفاجآت ظهور الأشباح بالقرية .. ترى هل تحققت نبوءة الشيخ مسعود الذي ظل يطلقها في طرقات القرية " العفاريت ستدخل بيوتكم يا أغبياء " . (3)
والعملية التصويرية التأملية لهذه اللمحة التصويرة والتى تلخص كثيرا من وقائع القصة وأحداثها، تفرض نوعا من التخيل لمركبات الحدث، والمحيط الذى نشأ فيه، وهنا يصبح العنوان بداية صريحة ومباشرة لإطلاق الانفعال مقرونا، بالقضية الاجتماعية، التى تبحث فى أصل الواقع ومدى تقبله ورفضه لعملية المعالجة الإصلاحية، لأموره ونظرته إلى قضاياه العامة.
وفى قصة "مجنون"
يصبح العنوان مدخلا مهما لدراسة الظواهر النفسية والتقلبات الذهنية والاجتهادات العقلية، ويكون الخيال وسيلة مباشرة، فى توصيل الفكرة، وفى حمل جميع الإدعاءات على سبيل التمثيل النفسى، فالكلمة فى حد ذاتها صورة وفضاء نفسيا، يجتمع فيه الممكن وغير الممكن، وهى تفتح أمام التأمل مساحة واسعة من الخيال والانفعال، ويحتمى الكاتب وراء محيطها ليبث أفكاره وطموحاته الخيالية والإصلاحية، يقول صلاح معاطى :
" تلك النفس نجدها في الصديق الذي نسكن إليه ، الفيلسوف الذي يعطينا الحكمة ، رجل الدين الذي ينير لنا الطريق . وقد نجدها أيضا في شيطان مدمر يحول حياتنا إلى شقاء متواصل ، يخرب نفوسنا ويضلل سبلنا . يدفعنا إلى الزلل والخطيئة ويزج بنا في ظلمات السجون ، هذه النفس موجودة معنا . تعيش بيننا وداخلنا . " (4)
والصلة بين الخيال والعنوان واضحة، حيث تؤدى النفس وظيفة تعبيرية، ويقدم الحدث وجها تفسيريا لعملية الصراع النفسى الإنسانى فى المجتمع العلمى، بطموحاته ونواقصه، والملاحظ أن الكاتب حاول الدخول إلى عالم النفس والشعور، يشرح ظواهر هذه النفس والتى تتمثل فى الفرح والحزن ومإلى ذلك، وتلك عملية تأملية داخلية، اجتهد فيها صلاح معاطى واستخدم نماذج شخصانية مناسبة، وقدم صراعا داخليا بواسطة الفضاء النفسى الإنسانى بكل متناقضاته وحيويته، وانفعالاته العلمية والاجتماعية النفسية والإنسانية .

وفى قصة " السجين زد " :
يؤدى الخيال دورا إيجابيا وينفعل القاص بالعملية التركيبية السردية، فيقدم لنا خيالا علميا خالصا فى ثوب فنى قصصى متعدى، يبحث فيه عن أصل الأشياء والممكن وغير الممكن، فالعنوان مركب من صفة عقابية وحرف من حروف الإنجليزية " z " ، وتكاد تكون العلاقة بين المدلول اللفظى وبين الحرف مفقودة، هذا الفقد هو المدخل الأول المباشر للبحث عن حقيقة الخيال العلمى، فى القصة وفى ضمير السرد وفضائه ومحيطه العام.
يقول صلاح معاطى :
" كان الفيروس يقترب من نظيره . يندمج معه . يدفع داخله مادته الحية . لا يلبثا أن يتفجرا معا لتنتج عشرات الفيروسات الجديدة .. في أقل من نصف ساعة أصبح لدي في المعمل نوع جديد من الفيروسات اتخذت جميعها شكل الحرف زد بالإنجليزية "Z " وعلي الآن اختبار تأثير الفيروس الجديد معمليا"(5).
وهذا المشهد السردى يقدم وجها من وجوه الخيال العلمى، ويكشف عن مدى انفعال الفن بالعلم، انفعالا إيجابيا يبحث فى دائرة الكشف والابتكار والتحليل، ويقدم نموجا من الواقع يجمع بين الانفعال النفسى الممكن، وبين عملية التمثيل التى يقوم بها الكاتب، لواقعه وعالمه وهذا يقودنا إلى حقيقة مهمة وهى أن الخيال العلمى القائم على الفن والقص والحكى، ليس له حدود ولا يقف عند فواصل اجتماعية معينة، إنه صالح ومتعدى إلى ما وراء الواقع، ويمكن التعبير بواستطه عن المجتمعات الأخرى عامة، لأنه يقدم القضية العلمية معالجا بها أمور الواقع والحياة، فهو أدب إنسانى بالدرجة الأولى يجمع بين الشمول والخصوصية، الشمول العالمى والخصوصية الخيالية العلمية، ذات الأصول النفسية التأملية، التى تطرح الأفكار وتنقل الانفعال من قضية إلى أخرى، ومن شخصية علمية واجتماعية إلى غيرها، لتقدم بعدا لم يكن مطروحا من قبل.

وهذا يؤكد ماذهبت إليه سابقا وهو أن العنوان من العوامل الأساسية فى قراءة النص القصصى السردى وهومن الأهمية بمكان حيث يؤدى أدوارا خيالية تساعد كثيرا فى كشف الحقائق الفنية والموضوعية التى تقوم على التصوير والانفعال
"وإذا كانت أهمية المدلول اللفظي للعنوان تتحدد من التشكيل القائم على الحركة والفعل والتخيل وهم من المكونات الأساسية للصورة الأدبية ، فإن ذلك يبحث في الدلالة عن مضمون الحكاية القصصية ، من حيث الصفات والنعوت وجلاء العلاقات ، والأبعاد الرمزية ، التي تكشف عن ثقافة الأديب عامة ، وتحدد علاقته الحتمية بالشخصية والبُعد الفكري والمجتمعي لواقعه ، مما يساعد على توضيح المفهوم العام ، للفن لديه ، من حيث الأصول الواجب مراعاتها ، عند التصدي للظواهر المسيطرة على حياتنا ، وكيفية مناقشتها وطرحها طرحاً إيجابياً ، يقوم على البناء والنقد والتوجيه ، وتلك إحدى معاناة الكاتب في استيعابه ما كتبه السابقون ، وما يمكن إضافته للفن والمجتمع معاً ."
الهوامش :
1) العمر خمس دقائق صلاح معاطى صـ 3 .
2) السابق صـ 3.
3) السابق صـ 31.
4) السابق صـ 37.
5) السابق صـ 56.
6) الصورة والقصة للدكتور نادرعبدالخالق صـ15 العلم والإيمان للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 2009



العمر خمس دقائق مجموعة قصصية للكاتب صلاح معاطى قراءة نقدية جديدة للدكتورنادرعبدالخالق الحلقة الأولى







العمر خمس دقائق
مجموعة قصصية للكاتب القصصى
والإعلامى/ صلاح معاطى
قراءة نقدية جديدة
دكتور نادرعبدالخالق
( الحلقة الأولى)
العنوان :
"العمر خمس دقائق" هذه الجملة التقريرية الإخبارية تتجاوز العرف والتقليد وتشير إلى وجود حقيقة تبدو مبهمة وغير معلومة للجميع،وتطرح سؤالا ضمنيا لايمكن الإجابة عليه فى غياب الحقائق التى يجب أن يستند إليها، مما يعنى أن هذه ليست مقولة بقدر ماهى حقيقة، وهذا يعنى أن هناك قدرا لابأس به من المراوغة فى تلك الجملة،والسؤال الذى يفرض نفسه هو :-
- متى كانت الحقائق عناوينا أدبية؟
- وما علاقة الأدب بالحقيقة؟
هذه التساؤلات وغيرها ستكون الإجابة عليها من خلال محاولة تقريب العنوان وفض ملابساته، وتحليل مضمونه فى ضوء القصة القصيرة، التى يمثلهاالتصوير القائم على الخيال، والخيال هنا ليس على إطلاقه بقدرما هو محدد بحدود تبدو ذات صلة بضمير النص وصاحبه،وتبدو محلقة فى أجواء نفسية إنسانية تأملية، تبحث عن التفسير وتبحث عن المنطق دون أن تهمل الوجدان،وتلك مسألة دقيقة جدا،حيث الجمع بين الحقيقة المنطقية المعروفة وبين جدلية التأمل فى الحب والعاطفة على المستوى العام ،وفى التخيل الإنسانى الحالم على المستوى الشخصى وذلك بواسطة التفسير الدقيق لمظاهر الأشياء، والتى تقوم على الخيال بصفته صاحب المساحة الواسعة، التى لا يحدها حدود،ولا تتقيد بالقيود الحسابية الدقيقة، مما يجعل النفس والخيال مثارا للجدل، ومثارا للتأمل والبحث، عن الحقيقة والتفسير.
والحقيقة أن هذه الجملة تمثل دلالة إشارية لإحدى إصدارات الكاتب القصصى والروائى صلاح معاطى،الذى يعلن اهتمامه بالخيال على وجه العموم، والخيال العلمى على وجه الخصوص، وتشير إلى مجموعته القصصية الأولى التى أصدرها منذ فترة ليست بالقصيرة،وهى مجموعة "العمر خمس دقائق" والتى تضم عشرة قصص قصيرة ، تتعلق بمحاولة التقريب بين الحقائق العلمية والتجربة الأدبية، بواسطة الخيال الأدبى، الذى يمثل حلقة مهمة بين النص والكاتب والقارىء.
فالنص: يقوم على تقرير وتقديم الجانب العلمى من خلال الرؤية الأدبية.
والكاتب: يمثل تيارا يبدو مغايرا فى مجال التجربة الأدبية القصصية، لأنه يقوم بوساطة أدبية خيالية بين التفسيرات المنطقية التى يقدمها العلم جاهزة دون تعليل وتفسير، ويتخذ من الخيال وسيلة انتقالية لتقديم هذه الأبعاد، التى قد تبدو جديدة على المجال النفسى الأدبى.
والقارىء: يتلقى هذا الطرح وهو يبحث عن هذه الموائمة بين المادة وبين الخيال والشعور، والحق أن هذه التركيبة قد تبدو سهلة ويسيرة، خاصة أن الخيال يستطيع أن يفتح أمام الكاتب مجالات واسعة من التأمل والحكى، وهذا بدوره يكون سببا للحديث ونسج الأفكار والأحداث التى تقوم عليها القصة القصيرة، لكن التحليل والفهم العميق للنص يختلف تماما مع هذا الزعم، لأن عملية القص والحكى لاتقوم على سرد معطيات المنجزات العلمية، وليس هذا هوهدفها العام، وإنما كما هو ظاهر من العلاقات والدلالات،أن الخيال هنا لايقوم على تلك الخاصية التأملية فقط، وإنما يقدم الجانب الإنسانى من عدة وجوه:-
أهمها الجانب المتعلق بالمعاناة النفسية وراء البحث والتأمل، وكذلك الرؤية الأخلاقية للمجتمع البشرى، فى ضوء هذه التحليلات العلمية الدقيقة، التى قد تبدو جافة، لكنها فى حقيقة الأمر وجدانية ومعنوية بالدرجة الأولى، تبحث عن الخيال والجمال والخير والحق، وراء هذه الأمور العلمية المتزاحمة، وتبحث عن الإنسان المعاصر فى زحمة العلوم وطغيان المادة، مقارنة باستفادته من هذه العلوم على المستوى التطبيقى المباشر.
وهذه عملية مركبة ودقيقة، تحتاج إلى وقفات عديدة من القراءة النفسية، للتجارب الإنسانية على المستوى العلمى، وتحتاج إلى إعمال الذهن، وتحتاج أيضا إلى توظيف جديد لمركبات الخيال الوجدانى، الذى يختلف عن الوهم والتخيل بواسطة التوهم، لأننا لن نغادر النص الأدبى ولسنا فى مجال الرؤية البصرية السينمائية، أو التى تقدمها أفلام الكرتون، أوأفلام الخيال العلمى، ويجب على القارىء أن يفرق بين هذا، وبين دلالات النص الأدبى القصصى، الذى يحاول الكاتب بناؤه على أسس وعناصر السرد المباشر، دون إقحام لإغراءات "الفنتازيا" الوهم أو التوهم .
من هنا فإن الإجابة على ما طرحته من أسئلة فى بداية المبحث، من علاقة الحقيقة بالأدب، سواء أكانت عنوانا أم مدلولا ام صيغة وتقريرا، يمكن معرفتها من خلال هذه التجربة التأملية، التى تبحث فى أصل الأشياء، وتبحث فى خيال الحقيقة وحقيقة الخيال، وتجعل من المسائل العلمية والأجهزة الدقيقة، وسائل أدبية تمتح من خيال خصب وتأمل دقيق، لتقدم لنا تجربة إنسانية ممزوجة بحقائق وجدانية ومعنوية، فى ثوب علمى يتشظى ويبحث عن تحليل أدبى مساو للقيمة المادية التى وقف عندها.
لذلك فإن الفن عموما والأدب خاصة يقوم على معطيات الحقيقة، بكل أنواعها، ثم يأتى الخيال بخصوبته وتنوعه وتوزع مراميه واتجاهاته، ليجعل من هذه الحقائق نصوصا وأفكارا جديدة، ينفعل بها الأديب، ويعرض فيها تجاربه ومشاعره،معتمدا على خصوصية الأدب التى تجمع بين الخيال والتجربة والتمثيل الخارجى لأمور الحياة ودقائقها، بعيدا عن الاعتقاد الوهمى بمعنى صدق أولاتصدق. وسأقف على حقيقة العنوان فى هذه القصة كنموذج تطبيقى يجمع بين المفاجأة والحقيقة والدهشة ومعرفة البعد الوجودى الفلسفى، من وراء هذه اللمحة البصرية التأملية، التى تبدو خيالية، لكنها حقيقة مادية محسوسة، أنشأها الكاتب بفضل سعة الخيال وتوظيف الجانب التأملى .
والعنوان هنا يقوم بوظيفتين مختلفتين الأولى عامة والثانية خاصة، وكلاهما يتمتع بمراوغة وحيلة تبدو فى ظاهر النص المصور، لكنها سرعان ما تتحول إلى حقيقة واقعية إنسانية، وذلك لأن القاسم المشترك بين الدلالات، يقوم على التصور الزمنى المركب من عمومية المرجعية الدلالية الزمنية، وكذلك التقريب المباشر لهذه الخصوصية الزمنية .
الوظيفة العامة :
تتعين فى إطلاق هذا التركيب العنوانى على عموم المجموعة القصصية، ووسمه " بمجموعة قصصية من الخيال العلمى" و من ثم ارتباطه بالنص الداخلى المتعدد ارتباطا رمزيا وموضوعيا، يؤسس الكاتب من خلاله لتكوينات الصورة الخارجية، تمهيدا لبناء الصورة الداخلية الموضوعية.
وحتى نتبين حقيقة ذلك ومدى توفيق الكاتب، يجب معرفة بقية المدخلات التى جاء بها الكاتب تمهيدا لتلك العملية، والتى تتعلق بما قبل النص، وتعود مباشرة على ضمير ووجدانه ، حيث تساعد هذه المدخلات فى توضيح البعد التكوينى النفسى للكاتب صاحب النص، وتساعد فى تحديد ملامح تجربته وتوافقها مع مركباته وتكويناته الإنسانية، ومغالاته أو قدرته فى إحكام القبضة النفسية والدلالية على وضع القارىء مباشرة فى عمق النص والتجربة، وكذلك بحث العلاقة بين الصورة النصية للعنوان الخارجى وبقية النصوص العنوانية الداخلية وإشاراتها القريبة .
أولا :
المدخلات وتتعلق بعبارة قصص من الخيال العلمى .
وتتعلق بعملية التقريب بين الخيال والفن القصصى على اعتبار أن نسبة العلم إلى الخيال نسبة ليست مباشرة بين النص والقارىء، وتلك إشارة من الكاتب إلى عملية التوظيف النفسية الداخلية وتهيئة المناخ الوجدانى بين التجربة عامة وبين عناصرها الداخلية والخارجية، والتى منها المتلقى العام للنص، والذى يمثل القاسم المشترك بين الخيال والعلم بصفته صاحب التأثير والتأثر.
ومما لاشك فيه أن الخيال من مركبات الفن عامة والفن القصصى خاصة، ووجوده ليس غريبا أو مقحما، لكن تحديده بالعلمى يفتح المجال أمام الكاتب ليجتهد فى رسم عالمه القصصى والنفسى، وكذلك يضع القارىء من منطقة من الغرابة والغيبية، تحتاج إلى طاقة هائلة من المتابعة والتحليل المباشر للحدث، دون ربط تتابعى للقص، إلا فى نهاية السرد حيث تتكشف الحقائق، وتبدوالإشكاليات العلمية قد تغلفت بروح الخيال، ثم انصهرت فى ضمير السرد وتحولت إلى وجدانات مباشرة يستطيع القارىء تفسير ظواهرها وفك رموزها وتحليل غرائبها .
والمتأمل فى نصوص ودراسات وأبحاث الخيال العلمى، يجد أن النظرة إليه اقتصرت على مدى الانبهار، وتحقيق المتعة الفنية التى يحاول أصحابها استشراف العلم وأحداثه ومنجزاته، وفائدتها وخطرها على البشرية، وأحيانا ليست كثيرة قد تجاوز دارسوا الخيال العلمى هذه المرحلة بهدف التأثيرات السياسية على الأمم المستوردة للعلوم والتكنولوجيا، وفرض هيمنة نفسية على الشعوب، ومن ثم إخضاعهم سياسيا وثقافيا وأخلاقيا.
وقد ساعد على ذلك قلة الأبحاث المقدمة فى هذا الجانب خاصة التى تتعلق بالنقد والتحليل الأدبى، وانحصار الرؤية فى باب التوهم وفرض سياسة استهلاكية تجارية فى المقام الأول، دون الأخذ فى الاعتبار عملية التمثيل العام للحياة، وشمولية الأدب من الناحية الإنسانية، والتعبير عن وجهة النظر الخاصة للأديب، فى ضوء معطيات الظروف البيئية والاجتماعية والنفسية التى يمثلها الأديب منتج النص، والذى ينتمى إلى بيئة وأمة وكيان ثقافى ذات طبيعة خاصة.
من هنا فإن قصص الخيال العلمى ليست حقول تجارب، وليست معامل متحركة على الورق، وليست مفتقدة للروح الإنسانية العامة التى تجمع بين بنى البشر، ولا يعد الخيال دافعا وراء التهويمات بعيدا عن العقل والفكر والعاطفة، ومعروف أن الفكر والعاطفة من مركبات النص الأدبى عامة .
ومن المدخلات التى تكشف عن الملامح الخاصة للتجربة عند الكاتب، وتقدم الجانب الإنسانى الفطرى، بعيدا عن التأملات الخيالية النفسية العلمية، ما صرح به الكاتب فى مقدمة المجموعة، وهوتصريح غير مباشر ورد فى الإهداء، هذا التصريح يعد مفتاحا أدبيا لتجربة الكاتب وتكوينه الأدبى والثقافى والاجتماعى، وهو تكوين وجدانى شعورى تأملى، يكشف عن الكثير من الملامح الداخلية، والتى يمكن بواستطها معرفة الحقائق النفسية والمعالم الحياتية الخاصة للكاتب صلاح معاطى.
هذه الإهداءات ليست على عموميتها المباشرة، لأنها مقرونة بصفات وتأثيرات خارجية كانت عاملا مهما فى تكوين الوجدان لدى الكاتب، الذى يحيل القارىء ضمنيا إلى المؤثرات التى ساعدت فى تكوينه، وهذه المؤثرات هى كلها إشارات تربوية وأخلاقية ومعنوية كالصبر والحب والعطاء وما إلى ذلك من عوامل معنوية إنسانية بعيدة كل البعد عن التكوينات المادية الحسية التى تتعلق بالأرقام والنتائج والسلبيات والإيجابيات، التى يفرزها العلم الذى لايعرف العاطفة فى كثير من الحيان والضرورات، وتصبح تجربة الكاتب هى مواجهة بين تكوينه الذى أفصح عنه، وبين خصوصية العلم المادى.
أضف إلى ذلك أن هذه المدخلات الإهدائية الوجدنية نسبت كلها إلى المرأة "حواء" فى عمومها أولا، وفى خصوصيتها التى تعينت فى الجدة والأم والأخت والزوجة والابنة والصديقة، و مصر الحوائية التى تشير إلى المكان المحدد بمصر الوطن الذى يجمع كل هذه الرموز الإنسانية والبشرية، التى تشير إلى خصوصية نفسية وهى الخوف والحرص ومحاولة استشراف المستقبل العلمى خوفا على الوطن الذى يرمز به الكاتب إلى هؤلاء، الذين لا يتعلق بهم الكاتب وحده، بل يتعلق بهم المتلقى الإنسانى لمجموعة قصص الخيال العلمى، ويلتقى معهن كثيرا فى خصوصيته المعنوية والوجدانية .
وقد جاء الإهداء على النحوالتالى :
إلى حواء ..
سبع من بنات حواء .
تعلمت من كل واحدة منهن شيئا .
إلى " جدتي " التي علمتني صلة الرحم .
إلى " أمي " التي علمتني الصبر .
إلى " نوسة " أختي . كانت تود أن ترى فينا أشياء كثيرة فلم يهملها القدر . علمتني أختي إنكار الذات .
إلى " زوجتي " التي علمتني الحب .
إلى " نهاد " ابنتي التي علمتني معنى الحياة .
إلى " سلوى سبع " التي علمتني الإرادة .
وإلى " مصر " حواء الجميع التي علمتنا كل شيء .
إليهن جميعا أهدي كتابي ..
والوقوف على العلاقات التى يضمها الإهداء يقف كثيرا على أبعاد الشخصية المبدعة ليس على سبيل الاحتفاء بها، بقدر ماهو إحدى عوامل التكوين الأدبى والنفسى لديه، والذى من شأنه أن يساعد فى فهم منظومة الخيال العلمى فى قصصه .
ثانيا :
الوظيفة الخاصة :
مقاربة العنوان الخارجى "العمر خمس دقائق" بالنصوص العنوانية الداخلية، التى يمكن تحديد صورتها، من خلال الدلالات التشكيلية الموجودة فى العناوين، هذه الدلالات يمكن تقسيمها رمزيا وموضوعيا إلى عدة أقسام،وهى كالتالى:
القسم الأول :-
قصص : الخيال الانفعالى الاجتماعى
رجلان فى مخزن الفحم
نبوءة الشيخ مسعود
مجنون
السجين زد
وهذه القصص تقدم ملمحا خياليا بواسطة انفعالات شخصية، استطاع الكاتب أن يقيم عن طريقها مجموعة من العلاقات الاجتماعية التى تبحث عن تحليل نفسى، وتوصيف تصويرى يقوم على البعد الصفوى،الذى يبحث فى أصل الفعل الخارجى، ويفسر إشكاليات الشخصية العلمية المعاصرة، بجانب البعد الاجتماعى الصريح والمباشر، والخيال هنا يمكن تسميته بالخيال الانفعالى الاجتماعى.
والمتامل فى حقيقة هذه الصور التى تكونت فى العنوان يجد أنها جملا اسمية مباشرة، ولذلك خصوصيته الموضوعية، هذا بجانب أنها صور خيالية مستقلة، تتكون من كلمة واحدة ، ومعلوم أن الجملة الاسمية تدل مباشرة على ثبات الفعل الضمنى، وتدل كذلك على استقرار الصفة النفسية، وانتهاء البعد الخيالى عند دلالة الطرح الأولى.
والدلالة النحوية لهذه التراكيب تدل على أنها أخبار، وقعت بالفعل وانتهى حدثها ولا مجال لعودتها أو تكرارها، والخيال هنا يؤدى وظيفة استعلامية خبرية تقف عند دلالة الإشارة فقط، وهذا يفرض أمرين الأول موضوعى والثانى لغوى:
الأول: الموضوعى
تدخل الكاتب ومعاناته فى توضيح ما غمض من دلالات بواسطة الخيال، وهذا يؤدى إلى قراءة الصورة الموضوعية قراءة خيالية مقترنة بأصل الفكرة الحقيقية التى قامت على أساسها الأحداث العامة .
الثانى : العملية التقديرية المتعلقة بأصل المبتدأ الذى جاءت هذه الجمل الاسمية خبرا له، وتلك مسألة تحتاج إلى تأويل وإلى إعمال الذهن، فى حدود ما يسمح به الخيال المتاح، فى بنية الجملة التى هى ملخصا لبنية السرد العام، وعلى ذلك تأتى عملية التقدير النحوية متعلقة بمعرفة، تعود على الشخصية القصصية، وتتعلق بمعرفة الكاتب لها ومعاينتها خياليا وتأمليا، ويمكن تعيين المبتدأ باسم الإشارة "هذا" لما له من علاقة إسنادية ثابتة، تتحدد فى كون المبتدأ مسندا إليه، وفى كون الخبرا مسندا حقيقيا، ومن بين المسند والمسند إليه فى بعدهما البلاغى الإسنادى، يمكن تحديد نوعية الخيال الذى قامت عليه الصورة الداخلية فى النص العنوانى .
من هنا يصبح التأويل لهذه الخيالات الإسنادية كالتالى :
هذان ـــ رجلان فى مخزن الفحم
= حقيقة ودلالة مركبة من النموذج البشرى والمادى
هذه ـــ نبوءة الشيخ مسعود
= حقيقة ودلالة اجتماعية تتقابل مع معطيات خيال العلم
هذا ـــ مجنون
= رمز ودلالة نفسية اجتماعية تواجه الحقائق العلمية
هذا ـــ السجين زد
= نتيجة ودلالة خيالية تفرز تعديات العلم وانحرافاته
والملاحظ أن المبتدأ قد أخذ الصيغة الإعرابية المناسبة، فجاء مفردا ومركبا تبعا لحقيقة المسند، وهذا يؤكد أن الخيال يعود على حقائق تقوم ببنائه، وتكوين ملامحه الأولى، وأنه ليس وهما وليس توهما يقف بالقارىء عند حدود ما بعد الواقع الاستهلاكى البعيد ، وإنما هو من معالم الحياة التى نعيشها، حيث نبدأ أى فعل فى حياتنا بالخيال وبناء العلاقات التى تسمح بتحقيقه فى دنيا الواقع، قبل أن نبدأ بفعل بشىء، من منا لايستحضر عمله فى ذهنه قبل أن يؤديه، ولو بطريقة تبدو سريعة لا نشعر بها أحيانا إلا فى وجود ما يستدعى ذلك .
والخبر قد أخذ أشكالا موضوعية، تشير إلى بناء الصورة، التى يمكن أن تتحدد فى الفكرة الموضوعية وخيالاتها النفسية والدلالية، والملاحظ أنه انقسم بواسطة الخيال إلى عدة أقسام منها ماهو متعلق بالحقيقة والدلالة( النفسية والاجتماعية) والرمز والنتيجة، والحقيقة والدلالة من المركبات الأولى للخيال، والرمز والنتيجة من إسقاطات الخيال القصصى التصويرى الداخلى، وهما ما يود الكاتب التنبيه عليه، والإشارة إلى توضيحه وفك محتواه الأدبى الإنسانى عن طريق الخيال العلمى .
القسم الثانى الخيال العلمى الزمنى :
قصص : روبوت
الطفرة
العمر خمس دقائق
توقفت الساعة
عندما تخطىء المقصلة
ما قبل العاصفة
وهذه القصص التى يضمها القسم الثانى تتعلق فيما بينها بواسطة القاسم المشترك، المتعين سلفا فى الصورة الزمنية، التى دارت فى فلكها النصوص العنوانية السابقة، إشارة إلى المتخيل الزمنى للعنوان الأصلى الخارجى" العمر خمس دقائق" والصورة الزمنية هنا جاءت مباشرة فى دلالة " العمر – وخمس – ودقائق – وتوقف – الساعة – وعند – وماقبل"، وجاءت غير مباشرة لكنها تشير ضمنا إلى وجود أزمان داخلية، تعلق بها التشكيل الدلالى للفعل الضمنى الذى لم يفصح عنه النص العنوانى، ويمكن تحديدها فى " روبوت والطفرة " وهما دلالات وإشارات زمنية لا تتعين بدون النظر إلى بداية وجودها وفهم حقيقتها.
والدلالة النحوية تشير أيضا إلى وجود الخبر الذى يبحث عن المبتدأ، والمسند الذى يبحث عن إسناده البلاغى، والحقيقة أن الخبر هنا جاء فى صورة إجابة، وكأن المبتدأ اسما استفهاميا، يقوم بتوصيل العلاقات وتحقيق البعد الخيالى بين النص العنوانى والنص السردى الداخلى،هذا فضلا عن العلاقة الموضوعية التى تنطوى عليها الصورة القصصية والتى تبحث فى أصل الأشياء عن طريق الخيال الذى يفسح المجال لرؤية تأملية أكثر إدراكا وأكثر انفعالا، والمبتدأ هنا يتعين فى اسم الاستفهام "ما" وغيره من الأسماء التى يمكن أن تنوب عنه إجمالا وتفصيلا بمعرفة التخيل العلمى ويمكن تقديرها رمزيا بـ " هل" و" ماذا" وعلى ذلك يصبح التأويل الإسنادى لهذه المركبات العنوانية القصصية كالتالى:
1 - ما ــــ الروبوت ؟
ما ــــ الطفرة؟
2- هل ــــ العمر خمس دقائق ؟
هل ــــ توقفت الساعة ؟
3- ماذا يحدث ـــ عندما تتوقف المقصلة ؟
4- أحداث ـــ ماقبل العاصفة .
المبتدأ هنا فضلا عن كونه اسما تتعين فيه الدلالة الإسنادية، إلا أنه يقوم بوظائف متعدية، أقرب إلى الخيال، إذا تناولنا علاقاتها بالشرح والتحليل، منها على سبيل المثال حقيقة الاسم المستفهم به وعلاقته بالجملة وهل صح تقديره، أم أنه أقحم على ضمير النص والعنوان؟
المتامل فى حقيقة الاسم "ما" يجد أنه اسم يستخدم للاستفهام وغيره كالتعجب والشرط والجزاء والنفى، وهوهنا مستعمل على حقيقته الأولى، ويؤدى وظيفة استثنائية مجازية، الوقوف عليها يساعد كثيرا فى تتبع مراحل الخيال الذى قامت عليه الصورة الموضوعية فى النص العنوانى، والتى من شأنها أن تسبر غور النص السردى الداخلى.
وهل لها معانى عديدة منها أنها تكون للاستفهام، وتستعمل للتصور والتصديق، زهى فى المثال الأول بمعنى "إن" التى للتأكيد وتصبح الجملة " ‘إن العمر خمس دقائق، وهذا يجعل من المتخيل الزمنى رمزا للاقتصاد فى التكثيف وفى الرؤية الدلالية المتعدية لحقيقة العمر، وهذا يتفق مع ما أراده القاص، ويتفق مع أدواته التى استخدمها فى توضيح هذه الكناية القصصية الكثيفة التركيز.
وفى المثال الثانى تأتى "هل" بمعنى الاستفهام وتاتى بمعنى "ما" النافية وكلاهما مبتدأ فى الأصل، لكن المعنى يصبح أكثر مراوغة، فإذا كانت للاستفهام، فالجملة خبرية تقوم على طرح الإجابة، التى تتوافق ضمنيا ومعنويا مع وظيفة السرد الداخلى، وإذا كانت للنفى فهى تثبت خيالا متعديا إلى أصل الفعل " توقف " الذى يحتوى فى داخله هو الأخر بعدا زمنيا ثابتا يدل على نهاية حدث، وبداية حدث أخر، والسم " ماذا " لايبعد عن كونه صورة شبيهة بما مضى من تفسير، وإن كان هناك تفاوتا فإنه يتعلق بالنتيجة التى تتعلق بتوقف المقصلة، ورمزية الفعل ودلالته الزمنية البعيدة.
والمتأمل فى حقيقة النتائج التى تترتب على هذه الاستفهامات يجد أنها تدور حول العلاقات التى سيقوم الخيال بطرحها فى النصوص الموضوعية، وهى درجة من درجات البوح والتأمل فى دنيا الخيال، الذى تقوم عليه القصة، والذى يتحول من حقيقته الأولى إلى مجرد خيال، رغم أنه يستند إلى حقائق وموضوعات إنسانية غاية فى الدقة. يتبع ...
الدكتورنادرأحمد عبدالخالق

السبت، 21 نوفمبر 2009

مختارات شعريةللدكتور نادرعبدالخالق قصيدة فعفوا للأمومة ياجميلة قصيدة للشاعر محمد سليم الدسوقى

فعفوا للأمومة يا"جميلة"
على أردانك الجُلى جميلة .. . ضعى نقشى وأشعارى الكحيلةفذاك الحبُ تعرفه فرنسا وتعرف أننى أخشى العذولةعرفتُكِ عندما كنا كبارا ً وصنتك عند نجعتنا الأثيلة !ولما هبّت الريحُ الخزامى ودحدحتِ النسائمُ والعسولة...ورفرفت الهوادجُ والصوارى وحطت فوق شامتنا الجديلة ...لففتُك /لا أبا لك/فى دثارى وصُنْتُكِ فى أزاهيرِ الخميلة !وأرخيتُ السُدول على خبائى وأندائى وأبهائى العليلة !وذُدْتُ الليلَ عن دنيا العذارى وذُدْتُ الويل عن شرف القبيلةوأعطيتُ المهورَ وما ملكتُ وأسديتُ القناديلَ .. الفتيلة !وما روَّحتُ من تيجان روضى ومن أرضى وراياتى الظليلة ...وما خضّبتُ كفّكِ من شذاه وما جادت به الريحُ العليلة ...وما صبرى وصبرُك هام عشقاً وما صبوى وصبوُك والرجولة !وما عهدى وعهدُكِ كان شمساً ونبراساً تَفتَّر فى ذهولة ...وما حفِلت به جُنُب الليالى والنهارات التى ملأت غيوله ..وكنّا فوقها صاباً وشهداً على سنن الحزونة والسهولة ...وصرنا فوق صبوات العذالَى " مراجلَ " واصطحاباتٍ صئولة !سلى "فرحاتَ" يا "بنتَ المثنّى" فكم نجواه ما زالت قئولة !على العادى وما خطّت يداه وما تهرَّأ من لياليكِ الصليلة ..ففى نهريك شذوى مُعطياتى ورُقياتى التى أضحت قتيلة !فماذا صار فى الدنيا حياتى ؟ وماذا دار فى خَلَدِ الفسيلة !!!وفى التاريخ والصابات عزمٌ وفى بُحرانِك العذبُ الأفولة ...وفى الرُكبان زيفٌ وارتيابٌ وفى الغلمان من جرحوا الخئولة !!وما عرفوا الذى قد كان عهداً وما عرفوا الخنوثة والرجولة !!!لقد أخطأتِ يا مثَلى الأبىِّ ويا دنيا العروبة يا أصيلة !فبينا تنبُتين من الروابى ملأتِ الكأس فيضاً من سليلة...فلا عرباً حثوْتِ ولا يهودا ً ولكن ذاك أنبوب الطفولة !!!وعفواً للأمومة يا جميلة !!!!!!!!مهداة إلى الفدائية " جميلة بو حريد "
شعر محمد سليم الدسوقى
مختارات الدكتور نادرعبدالخالق
هذه القصيدة نظمها الشاعر فى بكاء الأمومة التى ضمت المناضلة الجميلة جميلة أبو حريد والتى ناضلت من أجلها كثيرا وهى الجزائر التى ارتمى ابنائها فى احضان قاتلى جميلة وتركوا الأوطان فى مقابل مباراة فى كرة القدم والشاعر يندد بيهود العروبة والقومية والأمومة العربية
فسلام للأمومة ياجميلة
وسلام للشاعر الجميل محمد سليم الدسوقى

الاثنين، 9 نوفمبر 2009

مرارة المشمش لعطيات أبوالعينبن قراءة فى التجربة القصصية دراسة ألقيت فى النادى الثقافى بالقاهرة فى يوم الجمعة 5/11/2009 للدكتور نادر أحمد عبدالخالق

مرارة المشمش لعطيات أبو العينين
قراءة فى التجربة القصصية
دكتور نادرأحمد عبدالخالق
دراسة ألقيت بالنادى الثقافى بالقاهرة
لاشك أن دراسة التجربة القصصية تفتح أفاقا واسعة من الرؤية والتأمل والبحث فى مكنون النص القصصى، ومدى قدرة الكاتب فى الاستيعاب والمعالجة وتمثيل ذاته، والتعبير عن العالم الخارجى من حوله.
والتجربة القصصية عند عطيات أبو العينين فى مجموعتها القصصية" مرارة المشمش" تجربة اجتماعية نفسية تحتوى عدة اتجاهات، تسير وفق مخطط قصصى يتعدى حدود، التعبير الأدبى إلى اعتناق وجهات نظر نفسية وتربوية وأخلاقية ، تكشف عن ثقافة واسعة ورغبة حقيقية فى تقديم وكشف الملابسات التى تواجه البيئة المعاصرة،فى معتقلها الأول البيت وما يحتويه " الزوج – الزوجة – الطفل" إلى أخره، وتشير فى نفس الوقت إلى الملامح الخاصة التى يتشكل منها وجدانها الإنسانى والأخلاقى والاجتماعى .
ومن بين عمق الثقافة النفسية، والرغبة الحقيقية فى توضيح الفوارق الاجتماعية تبدو شخصية عطيات أبوالعينين بطموحاتها الكبيرة فى المشاركة الإبداعية الفعالة بواسطة القصة القصيرة والمقالة والشعروفى مجال البحث العلمى تتخذ عطيات أبو العينين منحنى النفس طريقا للوصول إلى تحقيق الموازنة النفسية الإنسانية بين طموحات الفرد وتجليات الإبداع .
وهنا تبدو تكويناتها الداخلية التى ترصد وتسجل وتحيل الموقف إلى ترجمة نفسية، وفى نفس الوقت لقطة قصصية مليئة بالمتعة والفن المعبر الذى يركن إلى أسس جمالية وأخلاقية فى المقام الأول، وهى فى كل ذلك لاتفصل بين واقعها ومجتمعها ومحيطها الإنسانى، وبين عملية التوظيف الفنى والنفسى فى بعث القضية وكيفية المعالجة، ولاتجعل الواقع النفسى الثقافى الملىء بالنظريات والأفكار الفلسفية والتربوية يطغى على العادات والتقاليد التى تميز المجتمع المصرى بكل خصوصيته، إنما تحاول أن تعرض العلاقات الاجتماعية بكل متناقضاتها من وجهة نظر علم النفس المعاصر، بغية المعالجة وبغية المشاركة الفعالة .
والمتامل فى ملامح التجربة الموضوعية والفنية فى قصص المجموعة يجد أن عملية التوظيف والاستدعاء لم تختص بفئة أونموذج اجتماعى معين مما يدل على أن النظرة الاجتماعية لضمير عطيات أبو العينين ليست قاصرة على محيط واحد أو بعد خاص، بل امتدت لتشمل نماذج عديدة وأماكن مختلفة وقضايا متنوعة لكنها تسير فى نفس الاتجاه، وهذا يؤكد أيضا أن التجربة ليست استعراضا لمفاهيم علم النفس أو تطبيقات لنظريات جافة جامدة، إنما هى موهبة ودراية استطاعت الكاتبة أن تعمل على إثارتها وبعثها فى قالب قصصى إنسانى ينفعل بالموقف والقضية، ويستفيد من مفاهيم وطرق علم النفس .
وتنقسم الدراسة فى مجموعة المشمش إلى قسمين الأول يمكن حصره فيما يلى:
مكالمة تليفونية النص بالنص حنين
البصقة البراوية الهيلاهوب
وتتسم التجربة هنا بالنزعة النفسية التربوية التى تبحث وتعالج وتقرر دون أن تهمل المعالم الفنية القصصية، وتلك مسألة دقيقة جدا وتحتاج إلى صبر ومثابرة، وتحتاج إلى استعراض أمراض اجتماعية كثيرة مما يشيع فى واقع الأسرة والبيئة المصرية، ومحاولة تقديم هذه الإشكاليات فى قالب فنى قصصى، يقوم على الحكى والقص بالدرجة الأولى، وهذا ما حاولت الكاتبة أن تؤديه بطريقة توظيفية موضوعية بعيدا عن المؤثرات النفسية، وهذه المعالجة الإبداعية القصصية، قلما يتعرض لمناقشتها كتاب القصة والأدباء فى وقتنا هذا، سعيا وراء المثير والمدهش الذى يجذب القارىء ، مع الأخذ فى الاعتبار السلبيات التى وقعت فيها الكاتبة من جراء تحقيق هذه المواءمة النفسية الاجتماعية .
وقد يرى البعض أن هذه المشاهد والمواقف القصصية تقتصرعلى المعالجة النفسية التى تطغى على جماليات الفن القصصى، والحقيقة التى لاجدال فيها أن تلك الأمور والمعالجات الفنية والموضوعية ينعكس عليها صلاح الفرد والمجتمع، وأهمية الدور المهم الذى يجب أن يؤديه الفن عموما والفن القصصى خاصة، مع أهمية تحقيق المتعة الفنية والحكائية .
وفى هذا الجانب الفنى الإبداعى قد استطاعت عطيات أبو العينين ان تصور وتنقل المشاهد القصصية، فى لوحات بيانية تقوم على التصوير النفسى المقارن، ويجب أن نشير إلى أن خاصية التصوير المقارن بواسطة النفس والشعور ليس مطروقا كثيرا فى أدبنا المعاصر، لذا فإن "مرارة المشمش" قد تبدو فى ظاهرها ومفهومها القريب غريبة تعكس روحا اجتماعية وأسرية، تهدف إلى ترجمة الواقع الداخلى الذى نبعد عنه كثيرا ولانقترب منه نظرا لخصوصيتنا الشرقية .
إن الكاتبة استطاعت ان تنفذ إلى ضمير المجتمع والبيت المصرى بواسطة نماذجه البشرية المختلفة، فى زمن نفسى محدد، رجالا ونساء أطفالا وشبابا، واستطاعت أن تنقل كثيا من المشاكل النفسية التى لانحفل بها ولا نستطيع أن أن نواجه بها أنفسنا، وقد لايبدو ذلك واضحا إلا من خلال القراءة البعيدة للنص القصصى عند الكاتبة .
ومن اللافت للنظرفى هذه القصص أنها اختصت بنماذج وحالات خاصة فى اوقات دقيقة وخاصة جدا مما جعل الموضوع القصصى يدور فى منطقة ذات خصوصية نفسية وأخلاقية، مثل قضية الاختيار الأمثل عند الزواج، وقضية العلاقة الزوجية، وكيفية تربية الأبناء ومراقبتهم فى المراحل العمرية المختلفة، ومراعاة المتغيرات النفسية والفسيولوجية التى تواجهم فى حياتهم الأولى، كل ذلك من خلال العلاقة الصحيحة بين الأبوين، بالإضافة إلى قضايا الفقر ومشاكله والغربة والمرض النفسى والعضوى، والمشاكل النفسية المتوارثة والتى يعول عليها الفن القصصى كثيرا .
لذلك فإن هذه التجربة بأركانها المختلفة تمثل تأسيسا خاصا وواقعا فنيا وموضوعيا، يمثل الضمير النفسى لعطيات أبوالعينين ولا يمثل غيرها، حيث لم تغادر نفسها ولم تركن إلى التقليد المباشر السريع الذى يحتفل بالنموذج الجاهز، حتى استطاعت ان تشير إلى طريقتها وأسلوبها فى التعبير بما لها وما عليها، والتى منها المتعة الفنية وإثارة الرغبة فى فهم الأشياء، والشعور بالحميمية المصرية فى أثناء القراءة، كل ذلك رغم وجود بعض الملاحظات فى الوحدة العامة الموضوعية للمجموعة، والتى خفف من حدتها الوحدة النفسية التى حاولت الكاتبة تحقيقها .
وثمة أمرأخر يلحظه القارىء المدقق لمجموعة "مرارة المشمش" وهو العملية التشاركية الفعالة بين القارىء والنص، من خلال السؤال الضمنى الذى تطرحه الكاتبة، والذى يختلف مضمونه تبعا لاختلاف القضية، لكنه عموما يدورفى أهمية المواءمة بين سلوكنا ومنطقنا فى التعامل الحقيقى الظاهرى الذى نعلن عنه، وبين ما نبطنه فى ذواتنا وتجاه أنفسنا، داخل بيوتنا وحجراتنا المغلقة وفى ضمائرنا ، تلك هى خصوصية عطيات أبو العينين فى تجربتها القصصية .
وفى القسم الثانى :
الذى يضم قصص القوقعــــة مرارة المشمش الحلــم
تدويرة المفتاح ليلـــة زفاف المصحى
تختلف التجربة لتعكس الوجه الأخر المقابل عند القاصة والكاتبة والباحثة الأكاديمية والإعلامية عطيات أبوالعينين، على مستوى القص والحكى والتطوير الموضوعى والنفسى،ويتعلق هذا الاختلاف بعملية الجمع بين حقيقة التأثيرات النفسية وتطبيقها على كافة المستويات والطبقات الاجتماعية، حيث قدمت الكاتبة مجموعة من الموضوعات المهمة على المستوى الاجتماعى والعاطفى النبيل، وهى هنا تحاول رؤية العالم وتمثيل الأخر بوعى وثقة، والملاحظ أن هذه الموضوعات قد استدعت لها الكاتبة نماذج بشرية تبدو بعيدة عن محيطها الشخصى، لكنها قريبة تمثل الطبقات المختلفة فى المجتمع، وفى النهايةإن التجربة القصصية عند عطيات أبوالعينين تجربة حقيقية تدل على شخصيتها المصرية وتعكس ثقافتها وتكشف عن طموحاتها الجادة فى ترسم خطى السابقين من الكتاب .
محاور التجربة القصصية عند عطيات أبوالعينين :
1- الشخصية
الشخصية عنصر مهم من عناصر العمل القصصى وعليها ترتكز العناصر الأخرى، ومنها تستمد الحكاية القصصية انفعالاتها وتأثيراتها المختلفة، وهى مدار التجربة فى "مرارة المشمش" وتتمتع باهتمام واسع من الكاتبة،هذا الاهتمام يشمل المصدر الذى تستقى منه هذه الشخصية وهولايبعد عن مجموعة الطبقات التى تمثل المجتمع المصرى فى رؤية زمنية خاصة جدا، ويشمل الاهتمام أيضا التوظيف الفنى الداخلى، ويشمل القضية والموضوع المتعلقان بعملية التمثيل الفنى والعلاقات التى تربط بين بقية العناصر داخل العمل.
فمثلا شخصية" البنت" فى قصة" سر اللوحة" شخصية انعكست عليها المفاهيم الخاطئة للعلاقات الزوجية والأسرية وخلافات الوالدين، وقامت اللوحة بدور الوسيط والمعادل الموضوعى الرمزى، الذى يوضح العلاقة وحقيقتها، ويساهم فى حل القضية، وشخصية " المصحى" الصداح والتى استقتها الكاتبة من أعماق الواقع البعيد وهى شخصية تقوم بوظيفة فنية وموضوعية داخل العمل، وتعكس قراءة وفهما متطورا لعلية التوظيف من قبل الكاتبة، وكذلك شخصية "عبدالكريم" و"فوزية" فى قصة "ليلة الزفاف" وهى من الشخصيات المقاومة، والتى استدعتها الكاتبة من ضميرها الوطنى العربى، وقد عالجت هنا قضية المقاومة وتهميش الروح والنفس والجسد من أجل الوطن، وكان من مظاهر ذلك حادثة الاغتصاب.
وفى النهاية يؤدى التوظيف الفنى الداخلى للشخصية فى هذه القصص إلى اكتشاف حقيقة موضوعية هامة وهى أن الكاتبة تعول على عرض التأثيرات الخارجية النفسية على الشخصية من جانب واحد دون استعراض الجوانب الأخرى مما يجعلها محددودة، لاتتعدى حدود الحادثة والفكرة المتعلقة بها، وأعتقد ان ذلك راجع إلى أن القصة لقطة أو مشهد مركب من الحادثة والتأثير النفسى المباشر.
2- الزمن
الزمن فى مجموعة "مرارة المشمش" لعطيات أبوالعينين هوزمن الحادثة، وزمن القص والحكى والعمليات الاسترجاعية التى تعتمدعلى الذاكرة الاستيعابية، وتلك عملية تقوم أساسا على الزمن الخارجى الثابت الغير مركب، وهو إما يأتى مباشرة من الماضى إلى الحاضر، أو يبدأمن الحاضرليعود إلى الماضى أوالعكس، دون الاعتماد على المدخلات الزمانية الإشارية الخارجية المساعدة، والمتامل يجد أن الزمن فى قصص "سر اللوحة- ومرارة المشمش- والقوقعة" قد يشيرإلى متعلقات زمنية أخرى خارجية إلا أنها تبعد عن كونها إشارات محددة بحدود القضية والشخصية والمكان
3- المكان
ينقسم المكان في مجموعة مرارة المشمش " إلي قسمين الأول المكان الحقيقي الطبيعي والثاني المكان المجازي الإفتراضي .
المكان الحقيقي يشيرإلي وجود مجموعة من العلاقات المكانية غير الثابتة قبل المدينة-ومن بين الشارع المنزل- المطار الجامعة . بالإضافة إلي الأماكن الخارجية الإنتقالية التي تشير إليها موضوعات الغربة وأماكن المقاومة والمعتقل والسجن ..
والمكان المجازي يتعلق بالمكان التاملي النفسي الذي يرتبط بالذاكرة والخروج من حيز الوعي إلي اللاوعي ويمثله قصة الحلم وبعض أماكن سر اللوحة . ومن بين الإتجاهين يلاحظ أن الكاتبة لم تخرج من نطاق العالم المحيط بها مما يعني أن القدرة التخيلية اقتصرت علي التوظيف المباشر . ولم تمتد لتشمل العلاقات المكانية الرمزية أو الإستعارية
4- اللغة
اللغة القصصية في مجموعة مرارة المشمش تدور حول عدة محاور أهمها :
- اللغة التأملية النفسية
- اللغة الإنفعالية
- اللغة الإجتماعية
ومن بين هذه المحاور الثلاثة استطاعت الكاتبة أن تقدم مجموعة علاقات أسلوبية تصويرية دقيقة تعود على حقيقة الشخصية ورسمها بتفاصيلها الدقيقة . زتعود علي تصوير الصفات النفسية والأخلاقية والإجتماعية للمواقف الإستعارية البيانية المتعلقة ببناء الأفكار وترتيب الإ نتقالات الذهنية القصصية في محيط النص .
ويتجلي ذلك في قصة "المصحي وتشمل "صورتان عامة وخاصة خارجية وداخلية
العامة:تقديم نموذج إنساني مهمش
الخاصة :لأثر الناتج في توظيف العلاقات الداخلية على نماذج
2- والملاحظ أن حركة الكلمة قد تبينت في عمليات التكثيف والتنسيق النفسي التصويري الإنفعالي للتعبير عن مراحل الحياة وتطورها وانفعالاتها عبر الشخصيات وعبر النص .
دكتور نادر أحمد عبد الخالق
ديرب نجم 5/10/2009
ألقيت فى النادى الثقافى بالقاهرة
الجمعة 5/11/2009

الخميس، 5 نوفمبر 2009

الليلة التى لم تجد متعة قصة قصيرة للأديبة العراقية وفاء عبدالرازق دراسة نقدية بقلم الدكتور نادرعبدالخالق


الليلة التى لم تجد متعة
قصة قصيرة للأديبة
وفاء عبدالرازق
دراسة نقدية تحليلية
الدكتور نادر أحمد عبدالخالق
1- العنوان :
يظل العنوان الأدبى يواصل عطاءاته ومهامه الوظيفية الفنية والموضوعية وهولايبعد عن كونه صورة موضوعية مصغرة تحتوى بداخلها نصا أدبيا يمكن من خلاله أن يفتح طاقات هائلة من الحكى والسرد،حتى يظن القارىء أن هناك قدرا كبيرا من الظلال التى تتوارى خلف جدلية العنوان، ومن بين هذه الطاقات والظلال يمكننا أن نقف على بعض الملامح العامة والخاصة التى يحتويها هذا النص المصغر فى "الليلة التى لم تجد متعة" وهو عنوان إحدى القصص التى تضمها مجموعة "بعض من لياليها" للكاتبة والأديبة العراقية وفاء عبدالرازق .
والوقوف على العلاقات المختلفة فى هذا العنوان من شأنه أن يحيلنا إلى عدة أفكاروقيم تعود على الطرح الاجتماعى والنفسى الذى يطويه النص فى ثناياه، والمتأمل فى التركيبة اللغوية فى هذا النص العنوانى يجد أن العنوان الأصلى للمجموعة "بعض من لياليها"، يدور حول مفهومين مختلفين الأول: يدل على المدلول العددى المرتبط بالقلة والتبعيض، والثانى : يرتبط بعلاقة زمنية محددة بنسبة خاصة تعود حقيقتهاإلى"الليل" ورمزيته المتعددة والمتنوعة، والتى يمكنها فتح منافذ من الرؤية التصويرية البعيدة والقريبة التى ترتبط بهذا المنغلق الزمنى، والذى يعود ضمنا إلى ضمير مؤنث "الهاء" والذى يمكن تفسيره بمكان أو مدينة أو بيئة أوامرأة أوأى مدلول أخريسير فى نفس الاتجاه، هذا فى بداية التكوين النفسى للعلاقة بين القارىء والنص، وسرعان ماتتلاشى هذه التأويلات بعد القراءة الأولى، ويفصح السرد عن حقيقة التأويل.
والافتراض اللغوى النحوى ينبىء عن عملية تقديرية فى هذا التركيب الذى يمكن اعتباره خبرا لمبتدأ محذوف يقدر مباشرة باسم إشارة صريح "هذا"،فتصبح " هذا بعض من لياليها" والإشارة إلى القليل تجعله ذات قيمة وأهمية وفائدة وتأثيرمباشر استدعى الإشارة إليه والتنبيه على جدلية يتضمنها.
وعلى مستوى القص يصبح هناك مجموعة من الأخبار التى ستتحول إلى أحداث ، والأحداث ستتحول إلى سرد وهكذا .. وعلى ذلك فإن العنوان التالى الذى يمكن تحليله اعتماداعلى هذا المنظور يكون إحدى إفرازات هذه الليالى، خاصة أنه معرف بزمن مناسب ومتوافق مع الطرح الزمنى الأصلى الذى أصبح حالة عامة تسيطر على الموضوع، والقصص الأخرى التالية التى تدور فى هذا الفلك الزمنى المهم .
وهذا يفسر سر اختيار "الليل" معادلا زمنيا لطرح الإشكاليات والمتغيرات التى طرأت على الساحة فى المدينة، حتى أنه أصبح قاسما مشتركا بين قصص المجموعة التى منها :
ليلة مثقلة بـلاسئلة ليلــة اللتتويـــج
ليلة كاكيــــــة ليلة الباحث عن نفسه
ليلــــــة الفقدان
الليلة التى لم تجد متعة
من هنا فإن الليلة التى هى محور الوعاء الزمنى ومحيط الأحداث هى إحدى الليالى التى تغير فيها وجه المدينة والمتأمل فى هذه العناوين، يجد أنها جملا خبرية اسمية يحاصرها الحدث الثابت، ويغلفها الرمز الموضوعى المتعدى إلى مكاشفةالواقع والذات، وإلى نقله مصورا عبر السرد، مما يعنى أن القص ليس للحكى وإنما لتقرير حقيقة اجتماعية رمز إليها بزمن "الليل" ، الذى شاع فى فضاء المجموعة،ونسبة العلاقات إلى الليل تقف على حقيقتها التى تقوم على العملية الإسنادية المسند والمسند إليه:
فالمسند إليه هو ذلك الزمن الموصوف بالليل ورمزيته معروفة تتوافق مع مدلولات الخوف والبطش والانتهاكات التى يواريها الليل، والمسند متعين فى العمليات التى نسبت استعاريا إلى هذا الزمن،وهى كلها إشكاليات وأحداث تصف واقعا ملموسا ينشطر همه بين الرصد والضمير والنقل والتصوير، من ذلك :
ليلة ـــ مثقلة بالأسئلة ليلة ـــ الباحث عن نفسه
" " ـــ التتويــــج " " ـــ الفقـــــدان
" " ـــ كاكيـــــة " " " " " "
الليلة التى لم تجد متعة
فالأسئلة والبحث عن المصير والتتويج مدلولات يقابلها الفقدان والكاكية برمزيتها البعيدة تغلف الصورة بالتشاؤم، وتستقر هذه المعانى والدلالات فى وصف هذه الرؤية، وهى مقرونة بغياب المتعة وغياب الأمل، وانتشار الخوف مقابل الأمن الذى يعد من إحدى مظاهرالمتعة، التى غابت عن الليلة ذات الصلة، لذلك فإن الإسناد يفتح مجالا من التأويل الرمزى المتعدى إلى مابعد الليلة والتى قد فسرتها بعض الليالى مجازيا، واستقرفى تقرير "الليلة التى لم تجد متعة" .
من بين هذه الأموروالدلالات والعلاقات التصويرية والأوصاف الزمنية والنفسية يمكن الوقوف على النص المصغر الكامن فى العنوان الذى نحن بصدده وهو "الليلة التى لم تجد متعة" وهو نص ينقسم إلى قسمين الأول: زمنى حقيقى والثانى: رمزى يقوم على استعارة الرمز والتشخيص والإحالات الموضوعية والاجتماعية، التى تعود على ضرورة البجث عن معرفة هذه الحقائق .
الأول: الزمنى الحقيقى فى مظهره العام والمتعدى إلى وجود علاقات خارجية أخرى، ترتبط بهذا المصير، وهذه الإشكاليات التى تتوارى خلف قيم المتعة العامة، وحقيقة الزمن هنا تعود إلى كونه مصرحا به ومحددا فى المظهر الليلى، واعتماد الكاتبة عليه كبعد وخلفية نفسية تأثيرية، تتيح عملية الحشد التى ركزت عليها، وكانت عاملا مهما فى عملية التكثيف الموضوعى .
الثانى: ويتعلق بتفسير الرمز والعملية الموضوعية واللغوية التى تكون منها النص الداخلى للعنوان، وعملية البحث الأولى تقوم على حقيقة الإسناد ونسبة المستعار للمستعارله فـ"الليلة" وعاء زمنيا ليس له علاقة بالمتعة وغيرها، مما يعنى أن هناك معادلا خارجيا يدور فى فلك النص ، على مستوى الرمزالاستعارى ، ويرتبط بالرؤية الخارجية للصورة التى تراها الكاتبة وتحاول نقلها، إلى واقع تصويرى إنسانى متعدى إلى وصف الصفة التى تنتمى لها أولا وتعيين البعد الوجدانى الذى يعكس التجربة لديها، على مستوى النفس والشعور والحقيقة رغم وجود الخيال الفنى الذى يؤدى إلى تفعيل الرمز والاستعارة.
وهذا يعنى أن نسبة المتعة إلى الليلة كعلاقة أولى ونفيها كعلاقة ثانية، هى مرواغة للمعنى وبحث عن مفهوم وتفسير للمشاهد التى بنى عليها النص المصغر فى العنوان،وهذه التفسيرات يمكن الوقوف عليها من خلال البحث اللغوى، إذا اعتبرنا أن هناك تقدير أخر للمعنى بناء على التركيبة التى عليها الجملة، والتى توحى بأنها حبرا لمبتدأ يمكن تقديره باسم إشارة مناسب "هذه" لتصبح "هذه الليلة التى لم تجد متعة" حالة استثنائية لاتتعدى كونها ظرفا طارىء يجب معارضته ومعالجته فنيا وموضوعيا يؤكد ذلك حالة النفى التى تعينت بوجود " لم " التى تقوم بنفى ما مضى من علاقات وأحداث، وهى متعلقة ضمنيا بالضميرالذى يقوم بالوصف، والضمير الذى يمثل حضورا رمزيا، هذا بالإضافة إلى الصلة والترابط البعيد والذى اختص بتنشيط العلاقات الللغوية التى قامت بواسطة اسم الموصول "التى"، مما يعنى أن هناك مواجهة لغوية ذاتية بين أسلوب النفى وبين حقيقة الصلة.
وأعتقد أن تلك الحالة هى انعكاس لصورة الكاتبة نفسها والتى يرمز لها النص ضمنيا بضمير النفس،وانعكاس للصورة التى تريد نقلها وفحصها بطريق القص، وهذا يدل على أن المواجهة منذ الوهلة الأولى يمكن ملاحظتها فى ثنايا النص، وتحاول الكاتبة أن تحاصر القارىء بهذه المواجهة المركبة من الواقع والكاتبة والضمير النفسى الإنسانى العام والخاص .

الليلة التى لم تجد متعة
2- الصورة الافتتاحية
صورة البداية
الصورة الافتتاحية أوالبداية فى العمل القصصى تمثل مدخلا مهما لمعرفة مدى انطلاقة الكاتب فى عرض نفسه ووجهة نظره، خاصة أن هذه الصورة هى التى تنشأ العلاقة الأولى، بين القارىء والنص وتتعين منها خصوصية الوصف والربط بينها وبين العنوان كدلالة وتأكيد على القيمة النفسية والموضوعية للنص، وهذه الصورة تقوم على عملية التقريب بين الواقع الخارجى والكاتب والنص، وفيها أيضا تتم عملية التكوين الأولى للكاتب وتحديد ثقافته وميوله النفسية والاجتماعية والفلسفية .
وفى الصورة الافتتاحية فى قصة "الليلة التى لم تجد متعة"، تبدو لنا حقيقة الكاتبة ووجهة نظرها وملامح ثقافتها وأهمية تجربتها السردية، حيث بدت لنا الملامح التكوينية لثقافتها، ومحاولتها بناء فكرة فلسفية وتاريخية تنفذ منها إلى العالم الخارجى، تحاكيه وتقدمه وتقف على أوصافه وملامحه الإنسانية،وقد استخدمت فى ذلك وسيلة فنية استعارية مساعدة،حيث بعثت من الماضى البعيد شاهدا يصف ويرى ويقص، بطريقة رمزية استعارية، تعينت فى "تمثال" من الصلصال هرب من حارثه، ليخرج إلى المدينة ويرصد أحوالها، تقول القاصة وفاء عبدالرازق :

بعد قليل سأترك خشبتي الميّتة باحثاً عن جهاتٍ بعيدة عن حجر، قررت أن أترك قدميَّ تمتحنان الدروب وتحتسيان الرمل،عبر الجسور والطرقات. لي رغبة الاستمتاع بشخص آخر وبمصير لم يختره الآخرون لي، مصير بلغ حد الهزيمة،كما لي رغبة شجاعة تقودني لهذا المصير يغمرنى غثيانُ الحماقة، يحاور شكلي مستوضحاً سطحه الأملس.أحذو حذوه وأسال المتحجر: جد نفسك

هذه المحادثة الذاتية النفسية الرمزية الافتتاحية تعكس واقع القاصة الداخلى الذى يبحث عن البوح بالمكنون، ولم تجد أمامهاسوى هذه القطعة الحجرية، التى ستقوم بعملية اكتشاف ورصد لوافع إنسانى واجتماعى خارجى لكنه يتعلق بمفاهيم حياتية بعيدة الأثر والتكوين، فى حياتنا وبلادنا، والمتأمل فى المصير الذى يبحث عنه المبعوث الجديد، لايرقى إليه الشك فى أنه نفس المصير الموازى الداخلى الذى تبحث عنه الكاتبة والفقرة التالية تشيرإلى شىء من ذلك تقول وفاء عبدالرازق:

تحاصرني سطوة رعد ورتابة مُملـّة، أستهلُّ يومي، أحوم حول ذاتي، أنظر إلى ثعبان الوقت أنظف نفسي منه، لي مسيرتـــي الخاصة وسخرية المتفرجين.
لا أفضّل المكان، لا أفضّل الزمان، أعني أن كل شيء تورّم حتى أنا والهواء، من العدم تأتيني فجأة حفنة هلوسة تُشعرني بأني سأصاب بنوبة من التفتيت فأتأمل أفكاري وضرورة خروجي من شكلي، أشعر أن حياتي قلقة وحياة العالم مستقرة.

هذه الصورة التشخيصية المجسدة تبحث عن توصيف ومدلول لحالة هذا الكائن الذى هربت إلية الكاتبة لتبحث عن نفسها وعن وطنها وموقعها ومكانتها التى تلاشت وأصبحت فى غير حقيقتها المعنوية والنفسية وتبدو تلك الرؤية التصويرية المقارنة رؤية وواقع نفسى متعدى إلى وصف المشاعر الداخلية التى تعتمد على المنولوج الدرامى الذى أعطى الكاتبة مساحة واسعة، من التعبير والتعمق فى فهم الأشياء، التى قد يصعب فهمها فى التعبير المباشر الصريح الغير مؤول، وكذلك يعد التركيز على العنصر الرمزى الخارجى الوسيط فى محيط الصورة الخارجية،التى تسيطر على محيط الصورة الافتتاحية، هو نوع من الاهتمام والتعمق فى فهم الصورة النفسية لدى القاصة وفاء عبدالرازق، حيث يتحقق أمرين الأول: هو التكثيف منذ البداية للفعل الخارجى والحركة الداخلية التى تتوازى مع دلالة الفعل القصصى العام،الثانى: الفصل المباشر بين الشخصية الخارجية التى تمثلها الكاتبة وبين العناصر الداخلية للعمل القصصى ، رغم وجود حوافز فنية وموضوعية يمكنها أن تضيف إلى العمل بعدا طبقيا واجتماعيا، وهذا جعل الشخصية التمثيلية المستعارة ذات قوة ذاتية انفعالية تحاول التعبير وتحاول القص والرصد من منظورها الرمزى الخاص الذى يتناسب مع كونها مستعارة، وهذا يجعل فضائها يتسع للقص والحكى والتعبير بطريقة مختلفة، لكنها ذات أثر مباشر على واقع النص .
ورغم محاولة الكاتبة حشد الصورة الافتتاحية بالعديد من الأنواع التصويرية إلا أن الصورة المسيطرة على النص الافتتاحى هى الصورة النفسية الفلسفية التى تعتمد على المواجهة والمقابلة بين واقعين مختلفين لكنهما ليسا أحسن حالا من بعضهما البعض يؤكد ذلك قول القاصة وفاء عبدالرازق فى ما يلى:
ربما ميولي ورغبتي في أن أصبح شيئاً مختلفاً، لذلك أجد نفسي دائما في فرن، لو فرضتُ أني الآخر الذي أحلم هل سأتكلم أنا أم هو؟ تـُرى ما الذي أكون عليه وكيف أترك ثلجي؟ ماذا أصنع وكم من الوقت أستغرق في المدينة؟ حجمي صغير قد تواريه الأتربة، والشوارع المكتظة بمرايا مَن عبروا، ومَن أوجعته الوهلة الأولى في السير، ماذا أقول له؟ - هل أردفُ راجعا بأحلام ما زالت في الظل؟ - هل أخبره أنه صغير لا يستحق الحلم؟ أكره صلصالا لم ينضج بمتاهاته الأربعين كعانس تتعرّى للهواء. أشعر أن الطرقات شوكة في لحم رخو،والهواء يُنذر بالشؤم. أرى الأسواق زانية، الرجل مشطور والمرأة مشلولة .
وتنتهى هذه الصورة بهذه المقابلة الحوارية التى تعتمد على الذاتية والمواجهة النفسية، وقد حاولت الكاتبة أن تقدم نفسها من خلال هذه المقابلة وتشرح كثيرا من أوصافها الحسية والمعنوية،فى محاولة لاستبصار معالم التجربة الإنسانية لديها،وذلك بواسطة محاكاتها لنفسها من واقع السرد وواقع المواجهة التى تسير وفق القص على مستوى الصورة الخارجية والداخلية وانعكاس الأحداث عليها، وانصهارها تماما فى تجربة مركبة من داخلها وخارجها الممزقين، من هذا المنظور التحليلى لمركبات الصورة الافتتاحية يمكن الوقوف على مظاهر ومعالم الصورة الخارجية كما يلى :
1- الكاتبة :
تمثل المسند إليه الذى يحكم عليه بالمسند :
"النص – الواقع -الموضوع"
والعلاقة هنا تجعل الكاتبة فى مركز" الموضوع " المحمول به على الرصد والتأمل والقراءة والاستنباط ومن ثم التعبير بطريقة افتراضية .
2- النص :
وهو المسند المفروض مسبقا على الضمير العام الذى كان سببا فى استعارة الرمز التعبيرى، الذى ناب عن الكاتبة .
" الكاتبة – الواقع – الموضوع" .
والعلاقة هنا تفنح أمام النص مرحلة من الاستيعاب الموضوعى لصور الواقع مع اختلاف أنواعها وميولها وتناقضها أحيانا، مما يجعل محيط الصورة الخارجية أكثر تأثيرا وحضورا وتعبيرا .
3- الواقع :
وهو الصورة أوالنسبة التى تربط بين النص والكاتبة " المسند والمسند إليه" بطريقة ذات أثرعلى الفكرة والتجربة العامة، التى كانت دافعا أمام الكاتبة للتعبير واستنطاق هذا المجهول الجديد الذى غير وجه الحياة .وهو كما يلى :
" الكاتبة _ النص _ الموضوع "
والعلاقة تجعل من الواقع موردا هاما للكاتبة والنص مهما كانت التخيلات الذهنية، فالواقع هو الذى يمد النص والكاتبة بمستوييها الخارجى الحقيقى والداخلى الذهنى بالقضايا والأفكار التى ترقى إلى درجة التعبير الحر الموازى لفكر الكاتب وفى حالات كثيرة يتعدى هذا الدور إلى مابعد رؤية الكاتب .

4- الموضوع :
وهو الحقائق الفكرية والذهنية التى يترجمها الكاتب والنص والواقع، وذلك حتى تتم عملية الإضافة وتستخرج المعانى والعلاقات الموضوعية التى تربط بين النص والكاتب والواقع، ويتم كذلك فى الموضوع الجمع بين العناصر السابقة التى تمثل البعد الخارجى ، وأيضا العناصر الداخلية التى يتكون منها النص، والتى تساعد فى فهم الفكرة الرئيسية ويتعين فى ما يأتى :
" الكاتبة – النص – الواقع "
العلاقة الإسنادية بين هذه العناصر تجعل من الموضوع تجربة ومدخلا مهما ينفذ من خلاله الكاتب إلى ضميره النفسى الداخلى، ليوازن بين تكوينه وفكره وما يريد أن يطرحه، ويكون عنه عدة علاقات وافكار تترجم بواسطة الموضوع إلى رؤى تصويرية ينعكس فيها الواقع الذى يريد الكاتب معالجته، ويستدعى لها النص المناسب، وتكون هذه الأمورهى من دلالات الشخصية الفنية الإبداعية التى تعبر وتنشأ الفكرة والنسبة التى تقيد هذه الأفكار والعناصر مع بعضها البعض .
من هنا ومن خلال ما سبق يمكن الوقوف على حقيقة الصورة الخارجية فى الصورة الافتتاحية فى قصة " الليلة التى لم تجد متعة" لوفاء عبدالرازق من مجموعة " بعض من لياليها" وهى تتكون من مجموعة من القضايا والأفكار الاجتماعية والإنسانية التى تفسر الواقع وإشكالياته،فالمواجهة النفسية والموضوعية التى رصدتها وفاء عبدالرازق بين الفكرة والموضوع وضميرها كانت سببا مباشرا فى انعكاس الواقع الاجتماعى على الفكرة الرئيسية الخارجية .
لأن "الصورة الخارجية هى الصورة الأساسية المركبة من مجموعة من الأفكار الاجتماعية والإنسانية والتى تنقل القضايا العامة وتحيلها إلى واقع فنى متعدد الوجوه والأنماط " (1)
وأعتقد أن ذلك كان دافعا وراء عملية الاستدعاء الاستعارية التى قامت بها القاصة ومظهرا من مظاهرالتكثيف والرمز،مما جعل الحوارالداخلى ينفعل بانفعال الصورة الخارجية والواقع ،ودفع بالنص ووظيفته إلى تأويلات متعددة، وأضاف إلى العملية التكوينية للموضوع بعدا اجتماعيا يبحث فى أصل الواقع،ويفتح أمام البحث فرصة واسعة من الاستيعاب والتحليل لمفهوم النص والصورة والواقع والفكرة واحتواء الكاتبة .

3- الصورة الموضوعية :
" وهى الصورة المجردة من المواجهة الحسية للواقع ، ويقصد بها إعادة تشكيل الطبيعة والواقع ، وانتقال تدريجي من المعنى المفهومي الراسخ الثابت ، إلى المعنى الانفعالي المضطرب ، وبمفهوم آخر ، هي استدعاء للصور المتراكمة في الذاكرة ، و المتناقضة في تكوينها ، بقصد البحث عن مفهوم جديد للعالم " . (2)
وهذا ماحاولت وفاء عبدالرازق القيام به فى قصتها " الليلة التى لم تجد متعة " فقدمت الموضوع من خلال الصورة، وجعلت للصورة مطلق التعبير عن ما يدور فى خلدها، بداية من المكان والشخصيات والأحداث رغم قلتها، بسبب الاعتماد على التصوير، مما جعل هناك اختزالا كبيرا للعديد من الأحداث،والملاحظ أن كل شخصية هى تصوير لموضوع مستقل تنعكس فيه رؤية الكاتبة، وتتعين فيه وجهة نظرها، فالجسر الذى يعد إشارة رمزية لمعالم المكان يؤدى وظيفة موضوعية مهمة تشير إلى أن هناك عالمين يفصل بينهما الجسر، أو يكون حلقة الوصل بينهما، وتلك صورة تعبيرية تجعل عملية المواجهة مستمرة فى القصة لكنها تتشكل حسب التوظيف والتصوير، والكاتبة تحاول أن تجعل منه أداة فقط تقول معبرة عن ذلك :
" وأنا أعدّ ُأولى خطواتي نحو الشارع، مررتُ بأحد الجسور الذي يقسم المدينة ويربطها بريفها أو بنصفها الآخر،نظرتُ إليه متمنياً ألاّ أتوحّش مثلهم، فقد بدا العابرون كأنهم خرجوا من مصارعةُ " .
فالوصف هنا متعدى إلى حالة الجسر التى تربط بين الوظيفة التصويرية ومعالم المكان وصفته، والانتقال إلى وصف المارة وهيئاتهم النفسية وصفاتهم الأخلاقية وصورة المصارعة هنا تعبير عن أحد طرفى الجسر الذى تدور عنده الحلبة والطرف الأخر موازيا فى التوظيف الاجتماعى النفسى، حيث يتعلق بالعودة إلى استقرار وهمى غير حقيقى، وذلك لانتفاء الصفة الاجتماعية عن هؤلاء ،وفى النهاية فإن الجسر من المركبات الموضوعية التى يمكن أن تؤدى وظيفة تصويرية ورمزية فى القصة .
وفى موقف أخر ومن خلال الوصف وحركة الشخصية تقدم الكاتبة الصورة الموضوعية الحقيقية وهى معتمدة على التصوير البصرى الذى يعكس الحقائق الخارجية تقول وفاء عبدالرازق :
" إلاّ أن رجلاً واقفاً في نهاية الجسر شدّني أكثر من الجميع كونه يعدّ على أصابعه وعلى ما يبدو للعشرة فقط ثم يتطلع إلى رؤوس فارغة وجماجم جوفاء مبعثرة بشكل عشوائي على مقدمة الجسر.
بحثتُ عن أشياء تخصني في هذا المكان الغريب، إذ لا أحد يعرفني أو يُشعرني بقيمتي وتريحه هيأتي، لا أدري هل شاخوا أو تعبوا،أم في قلوبهم مرضٌ أدى إلى شحوبهم إلى هذا الحد".
والصورة الموضوعية هنا تقوم على تفعيل المكان وما يحتوى عليه من صور جزئية داخلية تشرح كثيرا من أوصاف المكان وما تسيطر عليه من غربة نفسية وموضوعية حقيقية والرمز الموضوعى يقوم بوظيفة انتقالية فى النص ويعبر عن الأمراض والمتغيرات التى أصابت الواقع الاجتماعى، وهذا ما تحاول الكاتبة التعبير عنه وتقديمه فى عدة صور وأشكال مختلفة .
والصورة الموضوعية الشخصية تتعين فى العلاقات التى تدور حولها الشخصيات على اختلاف نوعيتهم وهيئاتهم وما يرتبط بدلالتهم النفسية والموضوعية وقد حاولت الكاتبة أن تأتى بنماذج مختلفة فى المظهر والصورة لكنها كانت تدور حول معانى واحدة تتعلق بالمتغيرات الجديدة التى أصابت المجتمع الجديد،من ذلك شخصية المرأة العجوز المتسولة المصورة بدقة وعناية شديدة تقول وفاء :
" دنت مني عجوز متسوّلة متكئة على عكازها، منثورة الشعر رثة الثياب بدت أسنانها الطويلة الصفراء مثل كوخٍ خربٍ وغابة تعتصر العمر بحرائقها" .
والمتأمل فى هذه الصورة المشخصة يجد أن الموضوع والصورة والفكرة والقاصة قد امتزجوا فى نموذج المرأة التى تعكس وجه الأشياء كلها والتى منها المدينة ، والكاتبة هنا تجعل من الاستعارة التمثيلية عنصرا فعالا يؤدى وظائف تشخيصية عديدة، وأيضا التشبيه الضمنى والرمزالمباشر، من الدلالات التى تجعل الصورة الضمنية حقيقة تواجه الصورة الفعلية الحقيقية، التى تحاول الكاتبة أن تنقلها وتقدمها كنموذج انفعالى مركب .
وقد تكرر هذا التصرف الموضوعى فى مواقف أخرى كثيرة تسير فى هذا الاتجاه التصوير كصورة " المرأة التى عبرت لجسر" وبقية الأشخاص المساعدة، الذين يشكلون محيط الصورة الموضوعية " كالرجال السكارى" و" الشاب المرافق" و " الصبية الصفر الوجوه " الذين يمثلون حالة موضوعية رمزية من كونهم بكما لايتكلمون ولا ينطقون ، والنماذج الأخرى التى تصور حال المجتمع وتعكس وقع التردى الاجتماعى على ضمير الكاتبة من ذلك صورة المرأة الخجلى التى تتلفت وتبحث عن طفلتها التائهة ، والتى تحاول الكاتبة أن تضيف لها معادلا رمزيا موازيا لها فى الفكر والضمير .
وفى المقابل تبدو صورة الموضوع فى ناحية أخرى تتعلق برؤية الكاتبة بواسطة الرمز الاستعارى وتصويرها للأحوال العرضية العادية التى تواجه المراقب عادة تقول وفاء :
" وددت لو أعود لذاكرة الصمت وخشبتي السوداء، لكن الحلم الشاسع في عيني عادت له تجلياته، فتساقطت النجوم أرغفة شهيـّة ساخنة أشعرتني بجوعي" .
الأمنية هنا دلالة عرضية تعود ضمنا على رغبة الكاتبة فى نقل الشعور والأحاسيس من الواقع الداخلى إلى الواقع الخارجى، فى صور تتفق مع العملية النفسية ، التى تحاول القاصة أن تقدمه فى صور جاهزة تبدو وكأنها "كليشيهات" جاهزة لكنها تعبر عن مرارة الحاضر من منظور الماضى المنتهى .

وتقول فى نفس المعنى :
" وقفتُ أراقب الوجوه عند أول الجسر لأكون قريبا من القادمين والغادين، أتكاشف معهم، بين وجهي وبينهم ثمة فاصل، رأيت عينين مبتسمتين معلنتين عن نظرة قلقة، ثم غاب الطفل الذي يقضم خبزه على مهل دون أن يتفوّه بكلمة واحدة مما جعلني أتساءل:هل كانت نظرته لئيمة؟ هل هي ضدي أم معي؟"
ورغم أن المقارنة الضمنية ليست بين نموذجين متساويين أو متلازمين إلا أن الصورة الضمنية لهذه المقارنة هى صورة القاصة الحقيقية التى ترى بعيون الأخرين ، وكذلك يبدو فى المقابل بعض التفسيرات التى تكررها الكاتبة من حين لأخر فى صور مختلفة ومتباينة لكنها تتعين فى نقد الواقع وشرح أبعاد هذا النقد.

وفى أحيان أخرى تخرج الكاتبة من حصارها الكبير إلى تلمس خبرات ومعانى أخرى لكنها تدور فى نفس الفلك الإنسانى الذى يبحث عن الأمل المفقود ويبحث عن إمكانية تحقيقه فى ظل الأوضاع السائدة حاليا تقول الكاتبة وفاء فى معرض حديثها عن المقابلة بين الطفل والشمس مقدمة الموضوع الداخلى من وجهة نظرها التى اختتمت فيه الصورة النفسية بالخيط المربوط بقفل كدلالة واستعارة على تفعيل الحقيقة رمزيا وجهريا طالما أن المصارحة لم تعد تبدى شيئا :
الشمس تشرق باتجاه الأطفال، أخذتْ اتجاه طفلة تقلـّدت قلادة من حجر أبيض اللون، حين ابتسمتُ لها اقتربت وناولتني قرصاً من الخبز لـُفّ بخيط مربوط بقفل .
وتقول :
رميتُ القفل في النهر، اتكأتُ على سياج الجسر متلذذا ًبأول قضمة، أحرق اللعاب فمي بحموضته ، لكني بلعتها وحدثتُ نفسي: - جميلة مبادلة المعدة جوعها باللعاب وطعم الخبز.تذكرتُ أصلي الطيني، أنا أول مرة أتمتع بإحساسِ إنسان. بلعتُ اللقمة والتهمت الأخرى، تذكرتُ لعنتها لي، ليتها تدرك المسمار وتدرك معنى الجلوس على مسمار.
والصورة هنا تتنوع مابين كونية وطبيعية وتذوقية ونفسية وإنسانية معنوية وحسية ورمزية ، اجتهدت الكاتبة فى رسمها واستعارتها المركبة، وقد اعتمدت على المقارنة الموضوعية للصورة وأعتقد أن ذلك توظيف جديد، ليس للصورة فحسب وإنماللفكرة التى تتضمنها الصورة، حتى أن الصورة الخارجية لهذه الأشكال النفسية المرسومة، هى نفس الصورة الخارجية للفكرة التى تدور فى فلكها القصة عموما ، من هنا يمكن أن نوضح مجموعة العلاقات التى قامت على أساسها الصورة الموضوعية ، والتى عبرت عن ضميرالواقع والكاتبة، والتى يمكن أن توضح معالم الصورة الخارجية فى ما يأتى :
الكاتبة ــ التعبير والإحساس والتصوير والنقل .
التمثال ــ الرمز الموضوعى المعبر عن الكاتبة والواقع .
الواقع ــ هو الذى قام بترجمة الفكرة فى ضمير الكاتبة وأحالها إلى نص
قصصى يعتمد على الرمز وعلى الخيال والعاطفة .

الكاتبة
الواقع ـــــ التمثال ــــ الموضوع
الرمز ـــــــ النص
الحياة الماضية ــــ القاصة ــــــ الحياة الحالية
الصورة = الأمنية الخاصة
= وفـاء عبدالرازق
هذا التقسيم الفنى يوضح العناصر التى قامت على أساسها الصورة الخارجية كما حاولت الكاتبة أن تؤكدعلى ذلك فى محيط الصورة الموضوعية الداخلية، التى تشكلت من العناصر الداخلية، الممثلة فى الشخصية والمكان والزمان الذى لم يتجاوز الساعات القليلة نظرا للاعتماد على خاصية التصوير البصرى والنفسى فى أنحاء السرد ، واللافت للنظر أن هذه العناصر والأركان يصعب فصلها ودراستها مستلقة نظرا للتداخلات الكثيرة التى اتسمت بها هذه العناصر مع بعضها البعض، ففى بعض الأحيان كانت تمتزج الفكرة بالشخصية بالتعبير عن المكان والزمن ويرجع ذلك إلى عملية التكثيف التى لجأت إليها الكاتبة، وتلك خاصية من خصائص القصة القصيرة عامة .



4- الصورة الختامية
النهائية الأخيرة
الصورة النهائية هى أخر ما يعلق بذهن القارىء، وهى الرؤية الخاصة التى يتشبث بها القاص عموما لينفذ منها إلى عقل ووجدان المتلقى "(لذا فإن هذه الصورة النهائية ليست حدثا عاديا ، وليست عملية تشويقية ، تستهدف استنزاف القارئ إنما هى فى الأغلب الأعم ، عود على بدء ونتائج لمقدمات ، وضميرا خاصا ، وعلاقات حسية ومعنوية ، فى غاية الأهمية ، وتتصف بالموضوعية و الجدة و الإيجاز وتأتى أهميتها من حيث أن الكاتب لا يستطيع أن يضع من خلالها ، حدا فاصلا للفكرة بل دائما ما يتركها على حالها مستدعيا عوالم ، وفضاءات و إيقاعات ، تختلف باختلاف المتلقى ، مما يعطى للفكرة غناء وحضورا ذهنيا طويلا ، يجعله يُقر بما هو بعيد أو محال أحيانا، أو بما ليس له تفسير فى ضميره ووجدانه ، خاصة أن الفن القصصى و الروائى ، بات يعتمد على الحقائق و القضايا الاجتماعية ، و التى تمثل وجهات متباينة ، وتحدث صخبا عاما ، من شأنه أن يثير خيال القارئ )" (3) .
وفى قصة وفاء عبدالرازق " الليلة التى لم تجد متعة" نجد توظيفا رمزيا مختلفا، هذا التوظيف يقوم على النزعة التأملية الفلسفية التى تقلب الأشياء على جهات مختلفة من الفكر والتأويل، فالصورة عبارة عن حديث نفسى لصلصال هارب من متحفه، يفكر فى العودة،وفى أثناء ذلك يطرح عدة أمور عند تحليلها وتأويلها ندرك تماما أنها تعود على الكاتبة ضميرا وفكرا ورغبة .
تقول وفاء عبدالرازق :
" شممتُ رائحة الصلصال الأول، تنفـّسته، أحسست بتكسر كائن في جسدي، ترنحتُ، رغم هيئتي الحجرية تحاملت على وجعي وقررت العودة لخشبتي، ربما صحا حارس المتحف وبحث عني كثيراً وخشية أن يـُتهم بالسرقة عليّ إنقاذه، مسكين لا يدري شيئاً عن منغولي دخل مع أسرته المتحف وسرق تمثالا من الفخار مربوطاً إلى خشبة بمسمار،أهداه لأول طفلة شاهدها في باب المتحف.وأنا بيدها الصغيرة تفقدتُ تكويني، لم أجد عرقاً على جسدي، حمدتُ صانعي فهو لم ينحتني لأعيش بين هؤلاء الأغبياء، شعرت بشيء يشبه المعدن في باطن كفي، كان له شكل مفتاح، تحسستُه، لهوتُ، رميته أرضاً وتجمّدتُ ، بينما طفلة جميلة تلهو بتمثال مربوط إلى خشبة قديمة،شربتُ ندمي وتمنيتُ لو أني لم أفكِّر بتجربة الخريطة.بهذه الأمنية نصّب نفسه زعيماً على نفسه.- لكنه مجرد تمثال قلت له بدلال: دع قلبك يرتاح واترك لي أمل التلذذ بصورة جديدة تلهو بذاكرة طفلة علّها تسعفني ليلة الغد وتتركني أتحسس رقبتي، مَن يدري، ربما سيصبح هذا التمثال قدوة لكل التماثيل "
والمتامل فى دلالة النص التصويرى الختامى يدرك أهمية الفكرة النقدية التصويرية التى تريد الكاتبة أن ترسلها فى محيط الصورة النهائية،ويقف على كثير من معالم التجربة لديها وهى تجربة تبدو عميقة ومركبة من عدة أفكار بعيدة فى تأويلها، حيث ترتبط بالذات وبالوطن وبالمتغيرات التى أصابته وحولت مساره، حتى انعكس ذلك على أشخاصه وثقافتهم، واتجاهاتهم الاجتماعية والسياسية ، والكاتبة إحدى إفرازات هذا الواقع، وإحدى منجزاته الثقافية والأدبية.
والصورة الختامية تأخذ أشكالا عديدة حسية ومعنوية تتنوع فى التوظيف والإدراك، وتربط بين دلالة الصورة الافتتاحية والموضوعية، وفى النهاية فإنها تعبير عن ملامح ذاتية تعود على الكاتبة وتمس باطنها وثقافتها وفى النهاية وبشكل عام ، إن هذه الصورة الختامية ، للنص القصصى ، تمثل إشارة إلى حقيقة السارد ، وشرح علاقاته التكوينية ، بصفته الشخصية الرواية ، التى تنطبق عليها الصورة الأصلية الحقيقية ، التى يريد النص تصوير ملامحها ، ومواقفها ، وحياتها الأدبية ـ التى تحولت ، إلى صورة متناقضة ، تسخر من الفكر و العقل و المنطق و العرف بشكل عام ، وقد استخدمت الكاتبة وفاء عبدالرازق رموزا فكرية فى محاولة منها لكشف عرى الواقع المتعدى إلى خارج النفس والشعور، والذى كان دافعا لمثل هذه الإبداعات .
تمت .. الدكتور
نادر أحمد عبدالخالق
ديرب نجم 4/11/2009



الهوامش :
* النص الأصلى للقصة أرسل أليكترونيا بواسطة الأديبة وفاء عبدالرازق ، والشاعر الصديق محمد محفوظ وقصة " الليلة التى لم تجد متعة" لوفاء عبدالرازق هى القصة التى فازت بجائزة نجيب محفوظ .
(1) الصورة والقصة بحث فى الأركان والعلاقات د. نادر أحمد عبدالخالق صـ 45 .
(2) إيقاع الصورة السردية د. نادر عبدالخالق صـ 29 .
(3) إيقاع الصورة السردية د. نادر عبدالخالق صـ 24 .



الأحد، 1 نوفمبر 2009

سقام الجمال قصيدة للشاعر محمد سليم الدسوقى

سقام الجمال
شعر محمد سليم السوقى
- 1 -
لأن بشالك بعض الشحوب ...
وبعض النضوب..
وبعض الكلال
- فقد هِمت فى سقسقات الدلال!
وطوعت عينى على فلجة السراج ...
على فلة فى السياج
عليك
لأن الذى فى يديك سقام الجمال
- 2-
وجئت ...
ألا تدرين بأن السماء التى تحتوينى....
وأن السحابات فوق جبينى ...
وان السنا العذب على العسجدات
على الياسمين ...
على البرتقال !
وأن العسولة فى الحلويات ...
وان الطفولة فى زهر تينى
ترطب فى الزمان الجرىء
تلطف فى اجتواء السنين
وتلقاك عطرا وسحرا حلال !
- 3-
خذى غمضة العين لاتسبليها ...
خذى ومضة البرق لاتعذليها ...
فقط رأيتك ياشهد فيها ..
وهاتى بساتينك الفائحات...
وهاتى فساتينك الفاتنات ...
وهاتى حياتى!
فكم بت أطلب ذاك النوال !
وكم عز ...
كم لذ ياربة الابتهال!!!

شعر / محمد سليم الدسوقى


حوار الدكتور نادرأحمد عبدالخالق مع الشاعر محمد سليم الدسوقى


الحوار

- الشاعر هوالإنسان السابح فى عالم الإبداع شوقا وطربا وألما ووجدا ينشد الخير وينكأ الجراح ليداويها......... هل تتفق معى فى ذلك ؟
- الشاعر محمد سليم الدسوقى من أنت وما الجيل الذى تنتمى إليه؟
هل للشعر أهمية فى حياتنا؟ أم أنه ترفيه وتسلية..و..و... ؟


- نعم أتفق معك فى أن الشاعر بعوالمه الثرة السابحة فى دنيا الإبداع باحثاً عن الخير حيث كان ومسدياً الصحة والعافية لضمادات القلوب وجراحات الدروب فهو الإنسان الذى يقطر قلمه دواءاً لكل داء وشفاءاً لما يعتمل فى اغوار النفس البشرية من جماحات تبللها غلالات الجراح.
- يشرفنى أن أنتمى إلى جيل السبعينيات من القرن الفائت حيث الرواد من الشعراء المخضرمين وحيث أشعار محمود حسن إسماعيل ونذار قبانى وصلاح عبد الصبور وبد شاكر السياب وأمل دنقل وغيرهم من الشعراء.
وحيث تراث السابقين شوقى وحافظ وعلى محمود طه وناجى والجاهليين والإسلاميين كلٌ بقدره وقامته وأساتذة الجيل من تراث المنفلوطى والمازنى والرافعى وطه حسين والقائمة الذهبية طويلةٌ طويلة , وأنا واحد من تلاميذ هؤلاء قرأت لهم لأسير على ذات الدرب وأنتهج ذات النهج.
لهذا ساعدتنى نشأة القرية الغنّاء كثيراً وأيقظنى كُّتاب القرية من وهدة سُباتها العميق.
وكذلك عماد الأزهر الشريف والذى تعلمت فيه حيث تخرجت فى كلية اللغة العربية سنة 1966م.
وعلى منابر الساحة الأدبية حيث كانت بالقاهرة أو الأسكندرية أو بورسعيد أو سائر الأقاليم وفى صحف الداخل والخارج وإذاعاتها .





وعلى مساحة عشرين ديواناً من الشعر الصحيح الفصيح كتبتُ :

01- صلوات على زهرة الصبار.
02- طقوس الليلة الممتدة.
03- الحب فى زمن الرمادة.
04- قطرات العشق الإلهى.
05- شال القطيفة والبندقية.
06- جلاجل الفرس... وردية الإيقاع.
07- تنهدات الريح.
08- وا... زمان الوصل بالأندلس.
09- مواجيدى.
10- تغاريدى.
11- سنوهى... فى بلاد العشق.
12- الشعر يبحثُ عن أمير
13- الوارد العلوي ... طاف .
14- أبابيـــــــــل
15- ريهام نوار الفصول
16- النّهرُ .. صبٌّ لم يزلْ !
17- معاشقُ الهَديلِ والنّخيلِ والمطرْ
18- ياخيلَ اللهِ...اركبى !
19- مولاتى تمطرنى شعراً
20- هللى يا طيوب .
21- أحلى ما كتب محمد سليم الدسوقى من العشق الإلهى إلى عشق الوطن
** مسرح عنترة بين التأصيل والتأويل- دراسة.
-----------------------






ولقد كرمت عدة مرات وحظيت بعضوية رابطة الأدب الحديث واتحاد كتاب مصر ورابطة الأدب الإسلامى العالمية .
- ولا أستطيع أن أقول : إن الشعر رفاهة فقط أو سلوى فقط ولكنه قبل ذلك وبعده أخذٌ باليد إلى منابع الماء ومهاجع الدواء فى مقطوعة حلوة تقدم لك المثل والقدوة وصحوة الفؤاد والضمير وأنشودة الوهاد والخرير وطلقة المدفع التى تخترق صدور الاعداء وتحرس الوطن والزمن من عضال الداء.
وهو نثرة السحابة المقطرة, ونشرة الدعابة المعطرة وهو تاج العروس فى خبائها, ووشوشات السوسنات فى وهادها وهو دندنات الصغير فى المهاد, وصولجانات الكبير فى الجهاد.
وهو دعوات وصلوات عندما تحنو اليواقيت ويرتاح السبات.

س1 للتجربة الأدبية سمات وخصائص يمتاز بها الشاعر عن غيره مامدى صحة ذلك بالنسبة للتجربة العامة لديكم ؟

ج1 يبدأ الشاعر مقلداً فى الكثير من الأحيان ثم تنتابه الاستقلالية الكاملة عندما تنضج عنده التجربة وتستوى تماماً وهنا يقال : إن الشاعر فلان ينهج نهج كذا أو كتابته تجنح إلى كذا حتى يصل به الحال إلى خط معين خاص به هو, وسمات معينة لا ترى إلا فى كتاباته, وتصبح هذه سمته الخاصة التى يعرف بها عند قرائه ونقاده, وحتى إذا قرئ شعره أو أدبه عموماً أمام المتخصصين بدون ذكر اسمه يقال: هذا إبداع فلان..
وقد ذكر ذلك الأستاذ/ عبد المنعم عواد يوسف فى نقده لديوانى (تنهدات الريح)فقد قال: أشهد أن محمد سليم الدسوقى قدم فى هذا الديوان وفى كل ديوان جديد يقدمه شيئاً جديداً يختلف تماماً عن دواوينه السابقة وأنا متابع له .
وأنا فى هذه السمات أتكئ كثيراً على اللغة فى سموها ورفعتها وجزالتها وبلاغتها ولا أفرط فى ذلك سواء فيما كتبتُ من أصالة أو من حداثة.
وكما ذكر الأستاذ/ حزين عمر عندما نشر فى صحيفته "المساء" أننى قد فككتُ اللغز بين الأصالة والحداثة .
كذلك التجديد المستمر للموسيقى وللفكرة والصورة والشعر ومستحدثات العصر فى كل التناولات التى تدخل دنيا الكتابة الأدبية, فأنا أسلم نفسى للقلم الثر الذى يكتب ويرسم الصورة واللغة والفكرة والإيقاع وكل ما تمليه عليه عملية الإبداع وما يكتنز عنده من قراءات ومطالعات منذ الخمسينيات وحتى الآن عملاً بما يقال: إذا لم تستطع أن تجدد فدع القلم واترك الآخرين يجددون.
وفى الباب متسع لمن يقرأ وينقد ويقرر هذه السمات والصفات فى كل دواوينى التى منحنى الله إياها بعيداً عن التكرار والتدليس والمحو والإثبات وتغيير العناوين .
فهى مشروع شعرىٌ متكامل قلت فيه كل ما أريد وكل ما خطر على بال المريد من نجوى إلى الله ومن شدوى إلى الوطن.
كذلك ما وقر فى الخاطر من بلوى ومن بلسم, ومن حلوى وأغاريد فى إطار اللغة وهزهزات الإيقاع.

س2 هل يجب أن ينتمى الشاعر والأديب إلى مذهب أدبى معين أو مدرسة ادبية كالواقعية او الرومانسية أو السريالية ؟ ومامدى قناعتك بهذه الفكرة؟

ج2 مسألة الانتماء هذه مسألة أغلبية.
فالشاعر عندما يكتب لا يدور بخلده إلا فكرته التى تختمر فى وجدانه وتمور فى أعماقه وتراود القلم أن يكتب وأن يقول صارفاً النظر عن السريالية أو الواقعية أو غيرها.
لأنه لو قدر ذلك بدايةً لما كتب شيئاً حتى الشكل الذى يراوده لا يملكه إلا عندما يخرج إلى الوجود, ويصبح كائناً مكتوباً على الورق أو مدسوساً فى حلوق الخواطر والوجدانات, وعندما يتجلى للوجود ويصبح مخلوقاً سوياً نستطيع أن نقرأه وأن نحكم عليه الحكم الصائب ونقول لشاعره ساعتئذٍ : أنت موغل فى الومانسية مثلاً .
ثم نحكم عليه بغلبة عمله وننسبه إلى الصف المدرسى الذى نراه .


س 3 الصورة الأدبية فى القصيدة المعاصرة لاتقف عند حدود التعبير عن الموضوع والفكرة التى يريد الشاعر أن يتناولها فى قصيدته بل تتجاوز ذلك إلى التعبير عن الشاعر نفسه حتى أننا لانرى إلا صورة الشاعر النفسية هى الواضحة فى النص وقد ظهر ذلك عندكم كثيرا فى ديوان الدكتورة ريهام ما دلالة ذلك وبماذا تفسره وهل ذلك من فرط الحزن والجزع ؟

ج3 يقولون: الصورة عندى شديدة التأثير وقوية الوقع خاصة فى ديوان إبنتى الدكتورة ريهام وأنا أوافقك على ذلك فالصورة بشكل عام إذا لم تؤثر فى القارئ أو المتلقى وتهزه من الأعماق هزاً تصبح عديمة الفائدة وتصبح كذلك عبئاً على التجربة ذاتها .
وأذكر عندما بدأت أكتب ديوانى الثانى والثالث "طقوس الليلة الممتدة" و" الحب فى زمن الرمادة" وبتوصية من أخى الدكتور/ حسين على محمد أن أجرب كتابة القصيدة الحديثة فأنا جديرٌ بها كما يقول وقد كنت وقتها أكتب القصيدة العمودية فقط.
وقد فعلت ذلك بعد قراءتى لتجارب عديدة لشعراء كثيرين, خلصتُ خلال الكتابة بمعاناة شديدة أسلمتنى إلى حقيقة ثابتة لا يتصورها من لا يجربونها ويتشبثون فقط بالشكل التقليدى متهمين من يكتبون الشكل التفعيلى بأنهم يستسهلونه وأن الشكل التقليدى جد ثقيل لا يقدر عليه إلى جهابذة اللغة.
وأنا أقول خلاف ذلك وأن القصيدة الحديثة لمن جربها تجربة حقيقية وأعطاها حظها من الصورة والإيقاع حتى تتوهج بين يديه وهنا يستطيع أن يقول: إننى نجحت فى هذه التجربة وأن يقدمها للناس موسيقى عذبة ومتعة فنية " وبنبونى و شيكولاته" للمتلقى كما ذكر أخى الدكتور/ أيمن تعيلب فى نقده لبعض قصائدى فقد قال هذه العبارة: " إن فلان يقدم حلوى للقارئ ملفوفة فى غلائل من حرير " وهذه مسئوليته كناقد كبير.
عندها فقط وبعد التجربة قرأت ما أكتب على الدكتور/ حسين قائلاً : إنها تجربة مرهقة جداً فى إبداعها بالشكل الجيد والمطلوب فضحك ووافقنى على ذلك.
وقد التزمت فى كتاباتى هذا الخط الجيد .
وإذا كانت الصورة فى ديوان ريهام وهو ديوانى الخامس عشر فى غاية الدلالة والخصوصية فأنا أوافقك على فرط الحزن على ما أصاب إبنتى ريهام وإن كنت أختلف معك على أن الجزع عامل من عوامل تلك الخصوصية لأنه لا جزع على الإطلاق قد انتابنى وأنا أكتب هذا الديوان فى بدايات المرض وإن كانت الوفاة قد حدثت بعد ذلك بسنتين ونصف تقريباً وقد كان الأمل والرجاء والإيمان واليقين فى مدد الله تعالى موجوداً فى رحابات الزمان والمكان .
وإذا وُجدت هذه الرجاءات فلا مجال البتة للجزع والخروج عن سمت الإيمان.
ولكان الكلام قد اختلف عن ذلك تماماً.






س4 هل يمكن استخلاص التجربة بواسطة الصورة وهل ينطبق ذلك على التجربة فى ديوان الدكتورة ريهام ؟
ج4 الناقد المتمرس صاحب التجارب العديدة والدرايات البعيدة يستطيع أن يستخلص التجربة الثرية لشاعر ما عندما يبحر فى دراسته واستشفاف ما عنده من هذا العمل الذى يقدم له...أسلوبه ولغته وصورته وفكره خاصة الصورة العميقة عمق وجدانه ورؤيته وتفكيره إذ ليس ثمة شاعر ينتح من هذا الفيض الذاخر فى نفسه دون أن تنضج ثقافته وقراءاته وميوله ومؤثراته وتأثيراته فى الآخرين وإلا كان شعره غير دال على شئ فكأنه غير موجود.
وعندئذ نبحث عن من يدرس هذه الصورة بأبعادها المختلفة وإيحاءاتها المتعددة لنتبين عند من يكمن العيب الذى لا يستطيع أن يشى بالتجربة وأن يستخلصها جلية واضحة للعيان.
وديوان ريهام موضوع البحث خير دليل على ذلك فمن يقرؤه ويدرسه دراسة متأنية باحثة يستطيع أن يرى من خلال الصورة وما تلقيه من ظلال ونثار تجربة غنية موحية بكل ما فى النفس البشرية من خواطر ودلالات .

س5 انت تلجأ دائما إلى استعمال الألفاظ فى غير حقيقتها المألوفة مما يجعل هناك علاقات رمزية وأسلوبية متعددة قد تفوق المعنى المقصود ومن ناحيتى فقد اعتبرت ذلك تجديدا لكنه قد يواجه بغرابة عند الأخرين من النقاد ما قولك فى ذلك؟

ج5 سأجيب على سؤالك هذا من آخره فقد واجه الآخرون هذا الاستعمال بغرابة شديدة لأنهم لا يعجبهم شئ أصلاً لكنهم لم يمكثوا أمام هذه الغرابة إلا قليلاً ثم انقلبوا مسلّمين بهذه العلاقات الرمزية والأسلوبية الجديدة والتى تخرجهم من الزقاقات الضيقة فى عالم الفكر والأدب إلى رحابات التأمل والإعجاب بما يدور حولهم من متغيرات الفكر والإبداع وهم واقفون يتفرجون .
لكنها عوامل التغيير والتجديد ورياح التقدم والانفتاح على ما عند الآخرين من ثقافة وفن ومن طلاقة اللسان ونزوع البيان نحو الأفضل والأرحب بعيداً عن قصور النظر وفتور البصر.
وقد أشار إلأى ذلك الكتور/ حسين على محمد فى حوار معه عندما قال: إن هناك خاصية أسلوبية جديدة عند محمد سليم الدسوقى هى هذه العلاقات الغير مألوفة وهى غير موجودة عند غيره.
وذلك عندما قرأ فى ديوان الحب فى زمن الرمادة عبارة (سِوارَ الأذْنين, وقُرطَ المِعصم...)
ولعلك تكتشف قريباً شيئاً آخر جديداً وتسأل لأجيبك عنه إن شاء الله .

س6 يتهمك البعض بأنك معجمى اللفظ والكلمة ألا ترى أن الشاعر يكتب ليقرأ وبالتالى يجب عليه أن يلتمس التعبير السهل المعروف كيف توازن بين ذلك؟

ج6 يقول البعض : إننى معجمى فى كثير من الألفاظ والكلمات التى أستعملها فى أشعارى.
لكننى أقول بالمقابل: إننى أتهم هذا البعض خاصة إذا كان ممنهجاً على قوائم الأدب والثقافة والإبداع مقبلاً على القراءة والمعرفة مأخوذاً بسحر الشعر وموسيقى الكلام أن يكون قوى الصلة باللغة ومدلولات الألفاظ ولا أقول متخصصاً فيها أو دارساً لفقه اللغة و المعاجم.
وإنما تكفيه الدراية بسياقات التعبير وتآلفات الجمل فحتى لو كانت هناك كلمة فى العبارة قوية بعض الشئ فالتأمل فى السياق يفصح عنها ولو بعض الإفصاح.
لكن التغريب والمعجمية التى أتهم بها غير موجودة وغير مطلوبة خاصةً فى تدنى المستويات المعرفية للغة ودلالاتها فى هذا الزمان.
فمن غير الطبيعى أن أتعمد ذلك وإن كنت أكتب بموضوعية وبصر بمواقف من يقرءون ومن يسمعون معتمداً فى ذلك على بعض الإضاءات الواردة حول هذه الكلمة أو تلك والتى لو تأملها القارئ لفطن للمعنى من أول وهلة ومن أقرب طريق.
إذ لست أسمح لنفسى أن أكتب بأقل من ذلك وأنا من أفنى عمره فى القراءة والكتابة والدرس والبحث, وأن يقال إننى سطحى التفكير والتصوير والتعبير وأننى لم أضف شيئاً إلى اللغة وكأننى أجنج إلى العدم واللاشئ على الإطلاق.
وقد رطبت ذلك بالكثير من الكلمات الدارجة التى أقوس عليها فى موضعها ليعرف القارئ أننى أقصدها.
ولعل ذلك يحدث التوازن المطلوب فى الأسلوب ولا عيب فى ذلك ولا غضاضة مادمت قاصداً له ومعترفاً به .

س7 الرثاء من أغراض الشعر القديمة منذ العصر الجاهلى هل ترى أن الشاعر المعاصر يحافظ على قيمة الرثاء وأهميته أم أنه اقتصر على الحوادث التى تصيبه فقط ؟

ج7 الرثاء غرض قديم قدم الشعر ذاته وإن كنت لا أميل إلى كتابته لأننى أعتبره نوعاً من أنواع التملق والذاتية وأنا أكره ذلك وإن كنت قد وقعت فيه من رثاء للوالد ورثاء للملك فيصل ورثاء للشاعر صلاح عبد الصبور رحمة الله عليهم جميعاً وكان ذلك فى ديوانى الأول والثانى ولعلنى أكون قد كرهت ذلك بعد ذلك, فهو لا يستميلنى على الإطلاق.
أما ديوان ريهام فليس رثاء لأننى كتبته قبل الوفاة بسنتين ونصف وفى الأسبوعين الأولين من المرض وذلك واضح من تاريْخى الكتابة والوفاة .
فهو رجاءات ودعوات خالصة لله أن يرفع البلاء وأن يأذن بالشفاء لكن قضاء الله وقدره سبحانه كانا على ما أراد ولا راد لقدر الله ومشيئته وقد عوضنا الله عن ذلك صبراً وسلواناً وأعتقد أن سوق الرثاء فى الشعر المعاصر سوق نافقة تماماً إلا من بعض المرءيات الحادِثية من هنا أو من هناك.

س8 هل يمكن أن نعتبر ديوان ريهام نوار الفصول من الشعر الإنسانى العام أم أنه رثاء بالدرجة الأولى؟

ج8 ولذلك فديوان ريهام نوار الفصول من الشعر الإنسانى العام بالدرجة الأولى .
تأمل :- " لأجلك تسكن النجوى وساداتى,...وخبأت المسك ذا للربيع,...فخذن لها عيناً من عيونى ترانى بها,...لأن الذى فى يديكِ سقام الجمال.."
وهل يرثى الإنسان إنساناً متشبثاً بالحياة ؟!

س9 رصدت التجربة لديك أغراضاً متعددة من الشعر وموضوعات فى شتى الاتجاهات الوطنية والدينية والسياسية فى مصر وخارجها هل على الشاعر أن يكتب فى كل الأنواع والموضوعات ؟

ج9 ليس على الشاعر بالضرورة أن يكتب فى كل الموضوعات وفى شتى الاتجاهات الوطنية والدينية والسياسية فى مصر وخارجها لكن ذلك لو توفر له لكان أفضل .
لأنه كالراصد للأحداث من حوله وهو موجود يسجل بعبقرية الزمان والمكان ما يقع من أحداث حوله ما دام موجوداً لأننى أتصور أنه بعد أن يرحل الشاعر عن هذه الحياة وتدرّس أعماله كما هو حادث وواقع سيقال فى موقف من المواقف: فلانٌ هذا عاصر إنتفاضة فلسطين عام 2000 مثلاً فماذا كتب عنها؟ أو عن أحداث العراق؟ فيكون الجواب كتب عن الأولى مثلاُ ديوانى "شال القطيفة والبندقية" و "جلاجل الفرس وردية الإيقاع" وعن الثانية ديوان " أبابيل " وهكذا ...
وأنا أتحمل مسئولية نفسى حتى بعد الرحيل عن الحياة.



س10 أحيانا أشعر أن هناك تكرار فى استعمال الكلمات وتوظيفها هل لذلك من دلالة؟

ج10 التكرار الموجود فى بعض الكلمات أو الألفاظ هو شئ طبيعى لأن الألفاظ هى خيط النسيج الذى تصنع منه القلادة أو القصيدة مثلاُ فليس هناك نسيج من غير خيط ووحدة شيئية كصناعة الموجودات أو الأشياء بشرط أن يكون ذلك مقبولاً ومجدولاً فى ضفيرة الكلمات بخيط سحرى يشد بعضها إلى بعض ويؤلف منظومة ورد جميلة وباقة حب ظليلة وشئ ما أكثر عمقاً وعشقاً خلف المرئيات المحسّة من هنا أو من هناك.
وقد كتبتُ عن التكرار المرذول وهو تكرار الموضوعات أو الصور أو القصائد بغية الإكثار من الكتب أو الدواوين وهذا شئ لا أخشى منه على تجربتى ذات العشرين ديواناً وكل ديوان بموضوع وعنوان معين وهو شئ ليس موجوداً قبله أو بعده.
ولا أخفى عنك أننى مؤمن أشد الإيمان بجغرافية اللغة فى سائر ما أكتب وكنت أدرّس ذلك للأولاد فى المدارس وأقول لهم: للمكان والزمان واقع جغرافى فى التناولات اللفظية التى يحتويها.
ففى المستشفى مثلاُ تشيع ألفاظ: "الدواء / الشفاء / المريض/الدكتور.."
وفى المدرسة "الأستاذ / التلميذ/ الحصة/ الدرس ..." وفى المحكمة " القاضى / المتهم/ الدفاع ..."
ولذلك كنت عندما أنوى كتابة ديوان عن العصر الفرعونى مثلاُ .." سنوهى فى بلاد العشق "
قرأت مجموعة الدكتور/ سليم حسن بكل متناولاتها لتطفح بعض ألفاظها على القصائد .
وقبل ذلك كتبت ديوان "وا...زمان الوصل بالأندلس"...قرأت الحضارة الإسلامية فى الأندلس والحمامة المطوقة وكل ما وصلت إليه يدى من متناولات الأندلس شعراً ونثراً لأكتب بمتناولات السياق وقد كنت أقدّر أن كل ما أقرؤه فى الموضوع سيفيدنى حتى ولو كان فناً تشكيلياً .

س11 السمات الأسلوبية التى تحيل النص إلى الطبيعة الريفية الأولى لاتفارق التجربة لديك فى أحيان ليست بالقليلة هل مازلت تشعر بالحنين إلى الريف البعيد؟

ج11 الطبيعة الريفية الأولى عندى راسخة فى الوجدان رسوخ الليل والنهار والشمس و القمر ولا تزوغ ولا تغيب كما هى ثابتة فى مداراتها المختلفة التى خلقها الله عليها رغم ما اعتراها من خلال القِدم ورُعافِ الهِرم كما ينتاب بعض الذوبان جبال الجليد ولكنها شامخة كعهدنا بها يوم خلقها الله ويوم ألقى عليها عذار التكليف وبدار الأمانة فتغطيْن برداء الإباء ودثار الخوف وجرى إليها الإنسان متحملاً العواقب غير هياب ولا وجل .
طبيعةٌ هذا شأنها ترسخت فى أعمال الشعور منذ الوهلة الأولى التى حبا الإنسانُ فيها على الأرض, ودرج على مدارجها وتمرغ فى ترابها وعاشرها بكراً ذلولاً يحتضن الزهور ويختدن البدور يقلّب الغلات, ويعدد الهبات, ويحمل فى يديه السلال والقلال .
فهل بوسعى ووسع الإنسان أياً كان يعى هذه الهبات أن ينساها يوماً ما مهما تقطعت به السبل وألقت به المقادير فى ناحية أخرى مغايرة لما ألِف وحنى وقطف وكبّر؟
س12 من هو الشاعر المثقف ؟

ج12 المثقف عندى من لبس دثار المعرفة وأخذ من كل فن بطرف .
فإذا تحدث إليك ألفته عارفاً بالسياسة والكياسة والأدب والفن والدين والفلسفة والذوق ولا أقول أن يكون متخصصاً فى فن من هذه الفنون وإنما تكفيه المعرفة التى تمكنه من أن ينعم بما يرى ويسمع ويتحدث إلى من حذق هذه الفنون حتى ليخيل إليك أنه من رجالها .
هذا هو المثقف عموماً ...
أما الشاعر المثقف فهو:-
من أضاف إلى هذه المعرفة ثقافة خاصة وألمّ بفنون الأدب واللغة والبلاغة وقرأ منذ الصغر قراءات شتى وأخذ بطرف من الأدب الجاهلى والإسلامى والمعاصر وإذا امتهن الشعر وأصبح من رجالاته المرموقين فلابد أن يزاحم فى الساحة الأدبية بالمناكب والأقتاب وأن يكون على علم تام بما يجرى فى تلك الساحة من شواهد وشوارد وحتى لا يفوته شئ قد يكون فيه الخير لو ألم به.

س13 لماذا تكتب ولمن ؟

ج13 هذا سؤال يبدو فى غاية الحرج ولقد سألته لنفسى قبلاً وكنت أجيب :-
إننى أكتب لأكتب وقد تكون هذه الإجابة شافية فى بداية التجربة الإبداعية لكنها لا تنفع الآن لمن كتب والتفت الناس إليه وقد ملأ الساحة صخباً وذهباً !
أما لمن أكتب؟
فإننى أكتب لمن يقرأ ولمن يسمع ..لأن القراءة والاستماع مجرد الاستماع أصبح فى هذه الأيام نادر الحدوث ! لكن الخير فى الناس مازال وسيظل قائماً لأن قسيمه الآخر قائم .
وأكاد أقول: إن الساحة الأدبية ملأى بأصحاب الهوايات والهمم ..
وإن كان التليفزيون والقنوات الفضائية والحاسوبات قد اقتطعت عناصر مهمة من حياة الناس وأوقاتهم فيما يفيد وفيما لا يفيد فى ذات الوقت .
ولذلك اصطنعنا للشباب وللشبيبة مواسم وأعياداً للقراءة علهم يلتفتون لشئ مهم فى حياتهم ألا وهو القراءة, ولكنهم حتى فى هذه المواسم والأعياد لا يقرأون .



س14 ما هو النص الذى تتمنى كتابته أوماهى الفكرة التى تراودك وتلح عليك؟
ج 14 كنت أود أن أكتب المسرحية كما أحب وهى فى الحسبان لأن لى فيها تجربة ناجحة فى بداية الكتابات وهى موجودة فى ديوانى الثانى "طقوس اللسلة الممتدة /سلام الله يا أمى/" .
لكن من يقبل على هذا العمل كما يجب فلابد أن يقرأ مائتى نموذج على الأقل حتى يحسن العمل ويضيف إلى المسرح العربى جديداً, وعلى الله وحده تحقيق هذه الأمانى والرجاءات .

س15- هل عبرت عن ذاتك كما تحب في دواوينك العديدة التي مضت؟

ج15 نعم أرانى فى كل قصيدة ومن وراء كل قصيدة مما كتبت أعبر عن ما يجيش فى صدرى من قيمة ومن رغيبة تحققت أو أهلل لها لتتحقق فى سموق وثبات وإباء وشمم والحكايا عديدة تفصح عنها هذه الدواوين ..عيناً بعين وموالاً بموال فى ذات الترتيب الإبداعى الذى كتبتها به .
وهو ترتيب فى غاية الأهمية لمن يدرس ويهجس ويحلل وهو فى نهاية الدرب حبيبٌ يرفد الحلوى ويتناول معى فنجال قهوة زائد السكر !

س16ما السؤل الذي تحب أن يوجه لك بشأن تجربتك الإبداعية؟

ج16 السؤال الذى كنت أحب أن أجيب عنه هو عن اللغة وصحتها وعن صحة الإيقاع لأن ناقداً حبيباً قد مسّ هذا الجانب فى أحد دواوينى لذا فأنا أوفر عليه عناء الإجابة لأجيب:-
إن الكتابة على الحاسوب قد تضيف ألفاً أو تحذف ألفاً يعنى تحسب عليك خطأً وهو خطأ طباعى وليس خطأً لغوياً لأن هذه الكتابة مراجعة مرات عديدة.
وأضيف : أن اللغة فضفاضة رحبة فى تقديراتها وفى الحذف وفى الإضافة وتقدير العوامل واختلاف المدارس اللغوية والضرورات الشعرية فى سبيل اعلاء صوت الشعر .
فأنا لم أكتب فى ضرورة تخالجك إلا ولها من الصحة وجه, بارك الله الأزهر الشريف الذى بسط لنا النعماء ننهل من رضابها ما نشاء ولنقدم للشعر العربى باقات لغوية جميلة قطفناها بأيدينا من ورود اللغة وروابيها .
أما الإيقاع فمن يقرأ القصيدة العربية الجديدة للأستاذ/ عبد المنعم عواد يوسف ويدرس تقلبات التفعيلة العروضية على جنباتها المختلفة يعرف : أن المقولة التى تعلمناها فى مجال الدرس والبحث و نحن صغار وهى أنه: ما أخطأ نحْوىٌ قَط هى مقولة صحيحة, وأضيف إليها :
وما أخطأ موقّع قَط عبَّ من نهر القصيدة العربية الحديثة وموسيقاها تبراً وأساور وأسارير !
كذلك : وكما ذكرت قبلاً فى هذا الحوار أن ورود بعض الكلمات أو الألفاظ العامية والمُقوّس عليها فى بعض الدواوين ...
إنما هو خلجة من خلجات هذا العمل الضخم مقصودة لذاتها ولإحداث التوازن المطلوب بين ذلك وما يقالُ من أعجمية بعض الألفاظ .
وأذكر بهذا الخصوص أن إبنةً لى قرأت يوماً قصيدة "على قهوة الصباح" بإحدى الصحف ولسهولتها وجمالها قالت لى: هل هذه القصيدة عامية ؟ لأن لها تخصصاً آخر ..
فقلت لها : لا ... إنها فى غاية الفصاحة والبلاغة وقد دفع ذلك الدكتور/ يسرى العزب أن يقول فى إحدى مناقشاته الإذاعية:-
إننى أهيبُ بشباب شعراء الشرقية أن يقرأوا محمد سليم الدسوقى كله فسوف يفيدهم ذلك كثيراً .

س17ما رأيك في هذا الحوار؟

ج17 تسألنى بعد هذا الحوار عن رأيى فيه فأقول لك: ..
هذا الحوار شدنى شداً للإجابة عنه وقد كان فى نيتى أن أكتب عن ذلك لكنى كنت أؤجله إلى حينه ولكنك إستطعت بحوارك هذا أن تجذبنى جذباً إلى الكتابة عنه مفصلاً وموضحاً كما تحب وأرجو أن أكون قد وفقت فى ذلك .

س18 قام الباحث والناقد د.نادر عبدالخالق بقراءة شعرك من وجوه الصورة والأسلوب واللغة هل تراه وفق فى الوقوف على ما كنت تود قوله؟

ج18 أما سؤالك الأخير عن مدى توفيقك فى الوقوف على ما كنت أود أن أقوله..فأقول: كأنك قد كنت تقرأ أفكارى فى الإشارة إلى جوانب هذه التجربة التى أرجو أن تكون ناجحة لديك ولدى كافة الدارسين والباحثين الذين يستهويهم البحث والدرس وإلقاء الأضواء على تجارب أفنى فيها أصحابها أكثر من خمسين عاماً من القراءة والمتابعة والمثابرة والاستمرارية رغم قسوتها وعنائها وسهر الليالى والأيام .
وإن كنت أود أن يتسع وقتك وبحثك ليشمل قراءة التجربة كلها من ديوانها الأول وحتى ديوانها الحادى والعشرين لتعم الفائدة وتكمل النجاعة ونجيب معاً عن سؤالٍ تردد فى ردهات العقول كثيراً وقد عانيت منه أكثر وهو لماذا يجفل النقاد العظام عن دراسة التجربة عند محمد سليم الدسوقى؟؟!!
ولك شكرى وتقديرى على عملك النبيل وعلى تحملك وجسارتك يا دكتور/ نادر
مع تحياتى وتمنياتى الطيبة لك بالتوفيق والسداد.


حوار أجراه
الدكتور
نادر أحمد عبدالخالق
مع الشاعر
محمد سليم الدسوقى
30/10/2009

قانا .. لها ! قصيدة للشاعر محمد سليم الدسوقى

قانا .. لها !
شعر محمد سليم الدسوقى
-1-
فتلك الجميلة .. .
فوق السحاب وفوق الرباب
وفوق البيوت
يقولون ماتت :
ولكن وهج السنا والمنى لايموت
-2-
فكم هفهف الورد والسيسبان ..
وشطرت الشمس والحبهان
رهان السكوت !
وأخرجت الأرض غيض القتامة
والمستهامة ..
والنوح والبوح ..
دنيا الخبوت
فماذا عن الصمت ( قانا ) !
وماذا عن الورد والعهد ..
والبرتقال الذى صار يوما دمانا ؟
وشقشقة الزهر، والنهر،
والعنكبوت؟
-3-
ويمشى على أرضها الألعبان
الجبان ..
يفتر عنها كئوس العسل
ويخطف من وجنتيها المنى
والأمل !
وزقزقة الموز بين العسيب وبين
النسيب ..
وبين الحياء وبين الوجل !
-4-
تهزهز (قانا) بنود الضحايا
جنود الصحاب ، أسود الجبل ،
فيعشوشب الحنضل المستطاب
وينسكب المر فى المقتبل !
ويسهد صبرى سهاد المرار
يغنى على ذلك الوغد أنى رحل !

-5-
فإن عادت العقرب الحيزبون ..
وعاد الذى عاث .. عدنا لها !
فيخضوضر الدم تحت اللهيب ..
وتحت الكثيب
وتستبطن الأرض زلزالها !
فـ " قانا" الدماء و" قاما " الرماء
و" قاما " بناتى فدوى لها !
-6-
فيا أيها الوغد ذاك الجبان ..
الذى ينهزم ..
ودمى على نهرها يضطرم ..
بناتى على العهد شلن الرؤس ..
النفوس على كفهن ، على صبرهن ..
على حومة الوجد ، والوعد
فى حب " قانا " هوانا ..
مهور تهون ..
دماء تجلجل عند الهدير ..
وعند المسير
ويبقى لحومتنا ما لها !!
شعر محمد سليم الدسوقى
نشرت فى المساء الأسبوعية إبان
الحرب على بيروت يونية 2006م .

الأربعاء، 9 سبتمبر 2009

يومية جرح قصيد للدكتورحسين على محمد قراءة وتحليل الدكتورنادر عبدالخالق


3- يومية جُرح

فرَّ الأمسُ سريعا
فوقفْتَ تُودِّعُهُ في هَلَعِ الأعمى
وطريقُكَ يوسعُكَ عذابا ا
فتُقابلُهُ مبتسما
منْ أنباكَ بأنَّ زهورَكَ تذوي في ليلةِ عشقِكَ
أوْ تتهاوى ..
في غدِكَ المُجهَضِ ندما ؟

الرياض 15/7/1992

العنوان :
" يومية جرح " جملة خبرية تحتمل صدقا فى الدلالة ، وتأويلا فى المعنى ، ورمزية فى الوجدان ، والتقدير هذه يومية جرح" تتحدث ، تتألم ، تتحاور،تشتكى " ودلالة هذه التاويلات الضمنية ناتجة عن دلالة الجرح ، على المستوى النفسى الموضوعى ، مما يجعل النص تقريرا وإخبارا عن حالة ذاتية للشاعر ، يمكن أن تتعدى إلى نوع من الشمولية ، التى تستوعب مظاهر الحياة الإنسانية ، ونسبة الدلالة الزمنية فى " يومية " إلى " جرح " ، الذى ورد فى صيغته المنكرة ، يوحى بعمومية التأثير ، وعدم وقوفه عند علاقة رمزية خاصة ، وكذلك يمكن اعتبار النص خبرا لمبتدأ تعين فى العنوان ، وعلى ذلك فالنص حكاية وقصة خبرية ، تستوجب تتبعا ، واستنتاجا لمجموعة علاقات ودلالات ، تقف على حقيقة النص ، وحقيقة العنوان .
من هنا فإن الصورة الخارجية هى صورة الشكوى ، والصورة الداخلية هى الصورة المترجمة لخصوصية هذه الشكوى ، ومظاهرها النفسية ، العميقة ، ذات الرمزية البعيدة ، التى تدور فى فلك الشاعر وفضائه النفسى والوجدانى ، والاستعارة الاسمية القائمة على انحراف العلاقة والمعنى ، تؤكد على أهمية الكشف عن المرجعية الرمزية ، والدلالة التى تقوم عليها هذه العلاقة ، وهى هنا لاتتعين من خلال مرجعية ، أوإشارة حسية معلومة ، وإنما يمكن عودتها إلى ذات الشاعر ، وإلى تفاصيل حياته الخاصة ويتضح ذلك من هذه الرؤية
" يومية جرح " المتأمل للمردود الرمزى ، فى هذه الجملة الإسنادية ، لا يمكنه أن يقف على علاقة منطقية بين الدلالة الزمنية لـ " يومية " وبين المعنى القريب لـ " جرح " مما يعنى أن هناك انحرافا نتج عن هذه التركيبة ، وهذا الانحراف أدى إلى وجود معنى ودلالة جديدة ، لم يكن إدراكهما ممكنا على هيئة الصورة الأولى، والدلالة الجديدة كانت سببا فى ظهور البعد النفسى ، حيث أدى الجمع بين" يومية" و " جرح " على اختلاف مرجعيتهما إلى وجود عنصر مضمر، لايمكن إدراكه حسيا أو بدلالة منطقية أو حسية ، وإنما يتعين إدراكه بالحدس ، من خلال قراءة الصورة الخارجية ، وتأويلها بالصورة النفسية الداخلية للنص ، والذى ساعد على ذلك هو وجود التشبيه ، وعلاقاته التى غلفت الصورة الكلية للعنوان .
تأمل معى هذا التأويل :
يومية = علاقة لاتخرج عن كونها زمنا لايتجاوز المدة المعروفة لليوم وهى تعنى تقريرا لحدث مضى ، ولم يعد لحضوره الحسى فائدة سوى التعريف به وبمؤثراته ، على المستوى النفسى ، كصورة خاصة ، يمكن قراءة الواقع الشخصى من خلال تحليلها
جرح = علاقة ودلالة تتعين فى الألم والنتائج المترتبة على الجرح ، وتأويلاته الحسية والمعنوية التى يمكن رد الفعل والنتيجة إليها وهو هنا على غيرحقيقته المستعملة ، واستعارته جاءت من كونه ، دلالة على حالة ، وعلاقة على وجود صورة حسية ستتحول بفضل الاستعارة إلى معنوية .
النتيجة = النسبة بين الألم والزمن ، نسبة مرجعيتها لاتعود على قياس الألم أو على زمنيته ، بقدر ماهى تعود هنا على إدراكه ومشاهدته ، وتلك حالة لايمكن تحقيقها ، مما يؤيد العملية التأويلية التى خضعت لها الصورة وقرائتها بهذه الطريقة




النص :
يقول الشاعر :
فر الأمس سريعا
فوقفت تودعه فى هلع الأعمى
وطريقك يوسعك عذابا
فتقابله مبتسما
الصورة التى تنطلق من خلالها التجربة هنا هى صورة النفس المتحاورة ، التى تتخذ من تجليات الصورة الخارجية ،وسيلة وركيزة ، تنفذ بواستطها إلى عمق الذات التى تمثل الركن الأساسى للتجربة ، والصورة بقسميها هنا تقوم على محاورة ضمنية ، تعكس مدى فقدان الإنسان السيطرة على ما مضى ، ووقوفه حائرا لايملك من أمره شيئا .
والقراءة الدقيقة للكلمات والجمل فى هذه المقطوعة الشعرية ، تقف على صورتين الأولى : صورة اللفظ واستعمالاته وحركته الضمنية ، فضلا عن حضوره المباشر الثانية : صورة النفس الحائرة ، التى تتعدى حدود الواقع الخارجى إلى كشف الحقائق التى تمثلها هذه النفس الحائرة .
والصورة الأولى يمكن أن تمثل الصورة الخارجية ، والصورة الثانية يمكن أن تدل على الصورة الداخلية للنص والشاعر ، وأيا كان المردود الموضوعى لكل من الصورتين ، فإنهما فى هذا النص ، حالة خاصة تعود فى المقام الأول على ذات الشاعر ، وتعبر عن كوامنه وانفعالاته وانعكاساتها،على الإبداع والتعبير النفسى ، الذى يمثل إحدى ركائز الفن ، ومظهر من مظاهر الإبداع ، وتجليات النفس الإنسانية عامة ، عند نشاطها الذهنى المتعدى ، إلى تمثيل الحياة والعالم .
صورة اللفظ :
فر الأمس سريعا
القراءة اللغوية للتركيب تقف على حركة اللفظ ومردوده وانفعالاته فى الجملة والجملة هنا فعلية " فر " و حالية " سريعا " والدلالة المباشرة لها تعطى دواما وحركة لهذا الفرار ، وتجعله حالا وواقعا لا ينقطع مده وفعله ، فى ظل تواصل الحسرة الداخلية للنفس التى ترقب فقط ، دون أن تملك شيئا فـ :
الأمس = ( الفرار )
الفرار = ( سريعا )
والأمس فاعل للمعنى ، ومجازيته محققة ، ومستقرة فى العقل والوجدان والجمع التصادمى بين ( فر – وسريعا ) يعد تكرارا وإلحاحا على تأكيد الواقع الذى ينطلق منه الفعل ويستقر فيه الحال ، وإذا تعمقت المعنى فى " فر " التى تعنى الهروب ، والهروب بطبيعته يستلزم سرعة وكرا وجريا وعدوا .
والمعنى فى " سريعا " أيضا قائم على السرعة ، هذا التكرار للمعنى ، يؤكد على حسرة الفرار ، ولوعة الزمن المتجسدة فى قوله : " الأمس سريعا " وتلك دلالة تعود على الشخصية الشاعرة مباشرة .
صورة النفس :
والتى يمكن تعيينها من الدلالة الانحرافية للفعل " فر" ونسبته إلى الوحدة الزمنية الرمزية القابعة فى "الأمس " " ( مع حضور المعادل الزمنى منذ البداية المتمثل فى" يومية" ) فالفرار ليس للأمس على إطلاقه ، وإنما هو فرار ، للأمال التى كانت معقودة ، على ذلك الأمس الذى أصبح خلقا بعيدا ، لا يمكن عودته أبدا ، كذلك المرجعية الموضوعية ، لـ " فر " الفعلية لاتتوافق مسبقا مع إسنادها الزمنى ، حيث جعلت من الزمن نهبا ، لايمكن للإنسان إدراكه ولاتتحقق له مقاومته، او إيقاف نزيفه المتواصل ، لصفة السرعة التى يتصف بها بجانب الفرار، لذا فإن المظهر النفسى ، لتلك الحالة الحدثية المتضمنة معنى القص ، هى حقيقة خارجية ، تحولت بفضل الصورة النفسية الدقيقة ، إلى ملمح من ملامح الذات ، التى يمكن وصفها بالفرار ، وعدم الاستقرار عند رؤية نفسية أومنطقية ، معلومة أو يمكن القبض عليها ، والحقيقة أن هذه الرؤية ، قد تحققت بفضل التشبيه ، الذى أدى وظيفة ، خارجية عندما قدم المعانى الذهنية النفسية ، تقديما حسيا مجردا ، وعلى ذلك يمكن اعتبار الجرح هو النفس ، مجازا لغويا وحقيقة وجدانية ، جاءت من أثر التشبيه ، الذى قرب البعيد وكشف عن العلاقة والرمز ، وفى ذلك يقول ابن رشيق :
" واعلم أن التشبيه على ضربين : تشبيه حسن ، وتشبيه قبيح ، فالتشبيه الحسن هو الذى يخرج الأغمض إلى الأوضح فيفيد بيانا ، والتشبيه القبيح ما كان على خلاف ذلك ، وقال : وشرح ذلك أن ما تقع عليه الحاسة أوضح فى الجملة مما لا تقع عليه الحاسة ، والمشاهد أوضح من الغائب " (1)
والفرار فى أصله ومعناه صورة حسية ، للأمس بوصفه صورة زمنية مستعارة من حقيقتها إلى حقيقة جديدة ، و ينطبق عليه ماذهب إليه إبن رشيق القيروانى من وقوع الحاسة ، بفضل الحضور الحسى ، لحركة الفر التى هى من خصائص المخلوقات المادية ،وانتقالها من الحسى إلى المعنوى .
ويقول الشاعر من نفس الصورة :
فوقفت تودعه فى هلع الأعمى
وهذا التركيب ينقسم بحسب الصورة إلى قسمين :
الأول : فوقفت تودعه .
الثانى : فى هلع الأعمى .
" الفاء " و حرف الجر " فى" يمكن الوقوف على نسبة حضورهما فى الصورة ، كبعد لغوى وظيفى ، لايتعدى حدود التوجيه والربط ، بين التركيب الأول ، وتعلق كل منهما بالأخر وصفا وقصا ، فالفاء تقوم على وظيفة العطف والتعقيب بين الجمل ، وحرف الجر ينقل الصورة التشبيهية من المنظور المعنوى ، إلى المنظور الحسى المشاهد ، وهنا يتحول المد القصصى الوصفى ، من مخاطبة وتعيين المعنوى إلى مخاطبة وتعيين النفس ، والانتقال مباشرة من غير الممكن إلى الممكن بواسطة الرمز المتجسد فى صورة الأعمى الحسية ، الشديدة الدلالة .
وقفت تودعه :
البناء التركيبى للجملة ، والإسناد التى أشارت إليه الدلالة اللفظية واللغوية ، تشير إلى بداية ظهور معادل موضوعى ، لم يكن موجودا من قبل هذا المعادل له مظهرين أحدهما ناقل للفعل ، والأخر يقع عليه الفعل ، وتلك رؤية مركبة تمثل ، الكيان النفسى للشاعر ،وتمثل أيضا الفعل الحسى المادى له ، وكأن الصورة لاتقوم بغير هذين المظهرين ، وعلى ذلك فإن الناقل والواصف هو من وقع عليه الفرار ،وأحس بقسوته ، ويصبح الوداع هنا أمرا لاإراديا ، بل يصبح ضرورة حتمية تفرضها ، تلك العلاقات الكونية التى لادخل فيها ، لمحرك خارجى ، أوموجه لرحيلها ، أو مجيئها ، والمرجعية الضمنية للضمير تعود مباشرة على الأمس ، الذى ينتقل برمزيته إلى الحركة المباشرة للإنسان ، ويصبح تعبيرا عن رحيله هو الأخر ،أو انسحاقه ، وعدم عودته أيصا من الأمس إلى اليوم ، بصورته التى استقبل بها ذلك الأمس الذى فر من بين يديه .
هلع الأعمى :
تشبيه ينتج صورة حسية ، تكشف عن الفشل الكبير ، الذى ينتاب من يحاول اللحاق بذلك الأمس ، لأنه حينئذ سيشبه فاقد البصر ، حينما يبحث عن النور ، أو ما يمثل هذا المظهر ، الذى يهديه الطريق ، وهلع الأعمى بمعناه المعجمى الذى يعنى شدة الجزع ، وشدة الحزن ، وعنف الضمير والوجدان ، ونسبة ذلك إلى الأعمى صراحة ،دون مواربة فى الحس والشعور ، يجعل من الاستعارة قوة ، وبيان ، القوة فى التعبير والتصوير والإدراك ، والبيان فى التقرير والاعتراف بعدم ، وجود الفعالية الممكنة لوقف هذا الأمس أوملاحقته .
ويقول الشاعر :
وطريقك يوسعك عذابا
فتقابله مبتسما
التركيب السابق يواصل فيه الشاعر انفعالاته وتصويره الدقيق لبعض حالاته ،كما تصرح بذلك الصورة الخارجية للتركيب ، حيث تفصح عن كوامن ذاتية ، ودفقات شعورية ، وحيرة وفقدان للمواجهة ، والصورة الداخلية للألفاظ ، والبعد التوظيفى النحوى الأسلوبى ، يقدم الحالة الباطنية للشاعر ، حيث تتواصل النزعة الشعورية ، للجمل بفضل فعالية العطف ، ويصبح الطريق محلا زمنيا ، يملك القدرة على المعاناة ، ويصبح مصدرا من مصادر العذاب ، بعد أن تحول من معناه الموضوعى ، إلى المعنى الرمزى الاستعارى ، حيث حل محل الواقع ، وأصبح معبرا عن إشكالياته ، ومرسلا عذاباته النفسية والوجدانية .
والدلالة التى وردت فيها الحالة النفسية ، التى تمثل الشاعر ، هى دلالة الحال المنصوب ، صاحب العلاقة الدائمة ، التى لاتفارق النفس والواقع والضمير ، وذلك يوضح الدلالات ومدى ارتباطها ، بالعلاقات الثلاثة التى تمثلت فيها الصورة ، وهى العلاقة الأولى الخارجية ،التى يتعين فيها الألم والحسرة ، والعلاقة الثانية التى يتعين فيها الضمير والنفس ، وما أصابهما من هموم ، والعلاقة الثالثة هى علاقة الفن والإبداع ، وتجلياتهما نصوصا وإبداعا ، يصور ويعكس الحالة الشعورية العامة ، والتى يمكن بواستطها ، أن نقف على بعض مظاهر هذا الأبداع والفن فى النص وعند الشاعر وقد قامت هذه العلاقات على خاصية التشخيص ، واعتبار المعنوى والوجدانى رمزا ، تتجسد فيه معالم هذا التشخيص ، وتنقل الشعور إلى عالم الحقيقة والواقع الذى يمثله النص .
ويقول فى الصورة الأخيرة ، وهى مناجاة ذاتية تعكس كثيرا من خصوصيات النفس الشاعرة ، ولاتقف عند حدود ذلك بل تتعداه إلى ذات المبدع نفسه يقول الشاعر :
من أنباك بأن زهورك تذوى فى ليلة عشقك
أوْ تتهاوى
في غدِكَ المُجهَضِ ندما ؟
والحقيقة أن التأويل المباشر الذى يسير فى الاتجاه السابق ، يجعل من هذا المقطع لقطة شعورية ، تتعين فيها المعاناة الحقيقية التى يواجهها الشاعر ، ليس على مستوى الواقع الخارجى فقط ، وإنما على المستوى النفسى التأثيرى ، الذى يوضح إشكالية الإبداع لديه ، والدلالة الحوارية ، جعلت من النص علاقة متعدية ، تشمل النفس بصورتها الداخلية الخاصة ، وتشمل الحياة بصورتها الخارجية الكلية .
والمتأمل يجد أن الاستفهام على صيغته وحقيقته الموجودة ، فى التركيب ليس عنصرا خارجيا ، يقوم عليه التحاور ، وإنما هو الباطن الذى يستقدمه الشاعر فى حالات كثيرة ،حتى أصبح هو المنوط بالحديث وكشف اللاوعى ، فى مواضع كثيرة .
ويمكن ترجمة الزهور بالقصائد ولحظات الإبداع ، وعلى ذلك يمكن قراءة النص هكذا :
زهورك تذوى فى ليلة عشقك
زهورك تتهاوى فى غدك المجهض
نـد مــــــــا
والمقابلة بين تذوى بمعناها المعجمى " تذبل " ، وبين تتهاوى التى تعتبر مكملة للمعنى فى تذوى ، حيث تعنى السقوط والانهيار ، تدل على صدق الدلالة ، وتدل على أهمية الرمز ، وانفعالات الشاعر .
كذلك المقابلة بين ليلة عشقك ، وبين غدك المجهض ، على مستوى الزمن وعلى مستوى الظرف الإبداعى ، تكشف عن حالات الإبداع التى تعنى، لحظات العشق والإجهاض ، والعشق والإجهاض ، يقدمان العالم الداخلى للشاعر ، ومعاناته ونجاحه وإخفاقه ، كل ذلك محاصر بالندم .
من هنا فإن قصيدة "يومية جرح" تمثل صورة لفظية ونفسية ، تستطيع من خلالها أن تدلف إلى نفس الشاعر ، وتقف على كثير من معالم المعاناة ، التى تمثل التجربة ، وتمثل لحظات العشق ولحظات الإجهاض .
ويمكن أن نصل إلى حقيقة زمنية ، وهى أن أوقات العشق الإبداعى لدى الشاعر ، تكون ليلا ، والأوقات التى تجهض فيها القصائد ، هى الغد برمزيته المستقبلية ، وتلك نزعة لاترى فى الواقع أملا ، ولاتريد مواجهة الغد بمعزل عن الإبداع ، وبمعزل عن تحقيق الذات المبدعة ، التى هى أصل الحياة عند الشاعر ، واعتقد أن هذه القصيدة ، تمثل يومية وتقريرا عن الشاعر ، الذى يمكن تحديده وتعيينه فى الرمز المتعدى "جرح" .
ومما عمق الصورة أن الدلالة الرمزية للكلمات ،" زهورك تذوى " أو تتهاوى " لاتبعد فى دلالتها ، عن الموصوف فى المشبه به ، والمتأمل يجد أن النسبة بين دلالة الفعل وحركته ، تتوافق مع طبيعة الزهور ، ومع طبيعة النفس ،مما يعنى أن التصريح بالمشبه ،قام بدلالة التلميح ، وأن الصورة جاءت تعبيرا عن الواقع الذى يمكن أن يجسد ويشخص كثيرا من مواقف الشاعر .


الهوامش : 1- العمدة لابن رشيق الجزء الأول ًصـ 287