الاثنين، 31 أغسطس 2009

رائعة الدكتور حسين على محمد وردة من دماء تحليل الدكتورنادر أحمد عبدالخالق

رائعة " وردة من دماء" للشاعر الدكتور حسين على محمد
قراءة وتحليل الدكتور نادر أحمد عبد الخالق
العنوان :
يقول الناقد العربى الكبير عبدالقاهر الجرجانى فى معرض حديثه عن المجاز :
" الكلام على ضربين : ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده .. وضرب آخر أنت لاتصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحدهولكن يدلك اللفظ على معناه الذى يقتضيه موضوعه فى اللغة ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض " (1) واللغة تعبير ووجدان ومن بين التعبير والوجدان يخرج الأسلوب مصورا صاحبه ومقدما عوالمه الذاتية وكاشفا عن ثقافته وملامحها وتكوينها ومركباتها وكما كولراد " يصبح الأسلوب تعبيرا عن الموهبة الذاتية " (2)وهنا تمر اللفظة بمراحل من التحول عند استخدامها فى المجاز حيث تصبح تعبيرا عن التجربة والموقف الذى يريده الشاعر والكاتب على السواء وفى ذلك يقول د. صبحى البستانى :
لغة الكاتب هى تعبير عن هذا الموقف ومن خلال كل ذلك تغدو اللغة الأدبية المجازية " تعبيرا عن أفكار وإحساسات الأفراد إذتمتزج بهم ومن خلالهم عن نفسية شعب وعاداته وتقاليده عندها لايمكن التعرف فى اللغة على أشكال لغوية مشتركة وموجودة مسبقا فى المعجم ،الحياة واللغة يشكلان وحدة متماسكة " (3)
لذلك فإن التأويل المباشر للعنوان يحتاج إلى تفسير دقيق ليس للمردود اللفظى فقط وإنما لمجموعة العلاقات التى نشأت من هذه التركيبة الدقيقة التى تكون منها هذا الرسم الانحرافى تماما والذى يجمع بين امرين : الأول فقدان الدلالة الاولى القريبة المعروفة لكلمتى " وردة – وماء " والمعنى القريب للحرف " من " وهنا يصبح البحث أمر لا مفر منه ، البحث عن الدلالة الجديدة التى فرضها التركيب ، والتى سيبنى عليها النص ، وتتحدد معالمه حتى النهاية ، حتى نستطيع قراءة الصورة قراءة واعية صحيحة خالية من العبث والاغتراب .و نستطيعمعرفة ثقافة الشاعر وصدقه فى التعبير .



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) دلائل الإعجاز عبد القاهر الجرجانى عبد القاهر الجرجانى صـ 202
(2) الصورة الشعرية د. صبحى البستانى صـ61
(3) السابق صـ 61





وبداية نتوقف عند كلمة "وردة " توقفا ضروريا استكشافيا ، فالدلالة الأولى المعجمية ،لا تكفى لبيان حال اللفظة فى هذا الموضع الافتتاحى ،وهو عنوان القصيدة كذلك لا ينسجم المعنى عند إضافتها للماء ،ولايعطى فائدة ، أو طاقة تعبيرية تصويرية مرئية ، اللهم إلا الدلالة الشمية والجمالية للوردة ، والعلاقات التراثية العرفية المتداولة بيننا جميعا ،وحتى يسقيم المعنى الجديد يجب البحث عنه ، ولكى تتم عملية البحث هذه بدقة يجب أن تدور فى علاقات ثلاثة . العلاقة الاولى :المعنى الحقيقى وقد عرفناه وهو المعنى المتعارف عليه مسبقا العلاقة الثانية : وهى المفهوم القريب من ذاتية الشاعر وموهبته التى أفضت إلى هذا التركيب البيانى المنحرف عن معناه الاصلى ، وهى هنا ذات دلالة ثابتة ، إذ تعين القصد مباشرة ، من أن الشاعر سيطوف بنا عبر عالم من إنشائه وليس عالما من مخزوننا وما تحمله الذاكرة ، مما يجعل عملية الإبداع لها خصوصية التغلغل فى المتاح وفى غير المتاح على المستوى الإصلاحى النفسى ،وعلى المستوى الاجتماعى . العلاقة الثالثة : وهى العلاقة التى فرضها المعنى المجازى الجديد

وردة ـــــــــــــــــــــــــــــــ دلالة الصورة الشمية الجمالية (المشبه به) ويمكن
تسميتها بالدلالة الخارجية .
وردة ــــــــــــــــــــــــــــــ دلالة الرؤية الشعرية وعلاقة ذلك بالتجربة عند الشاعر
ومدى تطبيقها أومدى
تراجعه فى ذلك ، ويمكن تسميتها بالدلالة الذاتية .
وردة ـــــــــــــــــــــــــــــــ الدلالة الانتقالية للمعنى واللفظ ومن ثم إنشاء الصورة . ويمكن تسميتها بالدلالة المجازية .
من – دماء ـــــــــــــــــــــــــ دلالة استعارية استثنائية يمكن تسميتها بثقافة الشاعر .

بالإضافة إلى الهيئة التى وردت عليها الكلمة لغويا والحقيقة أننى سأكتفى فى ذلك بالهيئة اللفظية الإنكارية حيث وردت الكلمة نكرة غير معرفة وذلك يعطيها صفة العموم والشمول فى بنى جنسها ، ولايخصها بوردة معينة ،ذات خصوصية معلومة ،وتلك دلالة جديدة على شمولية المجاز ، وعلى شمولية التصور" المشبه والمشبه به " ومدى ثقافة الشاعر الفطرية المتأصلة وليست المكتسبة .كذلك إضافتها تخصيصا إلى الماء والصعود مباشرة إلى قمة المجاز والاستعارة والانتقال من التمثيل الحسى المباشر إلى التمثيل المعنوى الوجدانى، مما يؤكد الانحراف وأن هناك علاقات قادمة من هذا التركيب خاصة إذا اعتبرنا أن الجملة " وردة من ماء" هى جملة تأمل واستعطاف ، مبنى على تقدير حذف المنادى والأصل
يــا ـــــــــــــ وردة مـن دمـاء
تكلمــــــــــــى ........
بو حــــــــــى .........
وهذا التأويل يفتح المجال أمام الحوارات الداخلية والمنولوجات التى تختفى وراء التراكيب والألفاظ وهنا تتحقق العلاقة والدلالة الانحرافية إذا اعتبرنا أن الملاءمة المعنوية بين أداة النداء وبين الوردة لا يمكن تحقيقها مما يجعل التأويل مفتوحا أمام مجموعة أصوات ربما تكون متداخلة فى النص لكنها لا تقل فى اهميتها عن المعنى الحقيقى المقصود من الكلمة واللفظ والتركيب
النص :
يقول الشاعر حسين على محمد فى قصيدته
وردة من دماء أقولُ أقول لها:
زورقي .. موعدي / المُنحنى
فنافذتي تتسهَّدُ نافِرةً لانتظارِ النِّداءْ
أأكتشِفُ البحرَ ..
إذْ يتفضَّضُ لونُ الغُبارْ؟
وينحدرُ الزَّبدُ / الموجُ
حتى أُعانِقَ فيكِ غناءَ السماءْ
وجُرحَ بداياتِ هذا الضِّياءْ
( أينفرجُ الزَّمنُ الوغْدُ
في سلَّةِ الأُمنياتِ
عنِ الأُفقِ تملؤُهُ وردةٌ من دماءْ ؟ )

صنعاء 28/9/1986
وهى كما هو معلوم من التصريح قصيدة "صنعاوية" قيلت منذ أكثر من عقدين من الزمان مما يدل على أنها تمثل حالة وتجربة ، تتعلق بالشاعر فى ذلك الوقت والتأويل القريب يوحى بأن موضوعها هو الشوق ولهفة اللقاء وأنتظار الوسيلة التى بها تتحقق الأمانى والرغبات . اقول لها : تصريح وخطاب موجه إلى ذات متعددة المناجاة هى الوسيلة التى اعتمد عليها الشاعر فى بث حديثه وأقواله ، وهى مناجاة ذاتية متعدية من حقيقتها الأصلية إلى توظيف استثنائى مستعمل فى غير معناه الحقيقى والقراءة التى تفرض سياقها

زورقى ـــــــــــــــــــــ موعدى
المــــنـــــحــــــنـــــــــــــــــــى
هذه القراءة تقف على الفعل المنتظر وهوموعد السفر والعودة وهوليس موعدا ينتقل فيه الفعل وتتحقق الرغبات فقط وإنما هو بداية جديدة لمنحنى الرغبات والأمانى وتكرارالياء فى العلاقتين راجع إلى أهمية الأمنية ، وكذلك يرتبط بالعلاقة الزمنية التى فرضها المشهد الافتتاحى للنص .والمنحنى تعبير مراوغ إذ يأتى نتيجة لما قبله على مستوى التأويل وعلى مستوى الجملة الأسمية الثابتة الدلالة وقرائته تكون هكذا :

زورقى
ـــــــــــــــــــــ المنحنى
موعدى
وهذا دلالة على أن الزورق والموعد ومابينهما من تباعد فى العلاقة والتأويل هما علامة فارقة ومنحنى انتقالى فى وجدان الشاعر إن لم يكن فى واقعه وتحولاته الأجتماعية وفى النهاية هوخبر ذكر مرة وحذف أخرى لدلالة التوظيف وتوحيد العلاقة ، والاستفادة من خصوصية اللفظ التأويلية .

فنافذتي تتسهَّدُ نافِرةً لانتظارِ النِّداءْ
وهذه الجملة الشعرية التركيبية ذات الإسناد التأويلى تتعانق مع العلاقة النفسية والمناجاة لتعطى صفة المشاركة والحشد لعلاقات جديدة على مستوى المشهد والنص المصور والملاحظ أن السهاد قد اسند إلى غير حقيقته ، بالإضافة لكونه علاقة معنوية لاتتعدى حدود الوجدان ، مما يجعل عملية التحقيق متواصلة وأن الامر لايقف عند حدود الشوق بل يتعداه إلى الفراق والأرق النفسى ليس للنافذة فقط وإنما للشاعر وما يحيط به

نـافــذتــى = تتـسـهــد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نــا فـــــــــــــــــــــرة
العلاقة : انحرافية
ـــــــــــــــــــ انتظار النـــــداء
النتيجة: تعدديةالرؤى
وتوحد الحال

والمتتبع لحركة الاستعارة يجد أن الشاعر قد أخذ من النافذة محور العلاقة وظيفتها الاساسية كأداة مشاركة ،وكعنصر أساسى ليؤلف علاقة ارتباطية جديدة ، حيث اسند إلى الغير متحرك والجامد حركة ووجدان فى آن واحد "تتسهد ــ نافرة" وهو إسناد لصفات غير أصلية فى وضعها الانتقالى الجديد ،مما يجعل اللاملائمة صفة وعلاقة قامت عليها الصورة فى النص .
وكذلك نافرة إسناد جديد لايعطى تأويلا مباشرا قدر ما يعطى علاقة انحرافية جديدة على مستوى الإسناد ، وعلى مستوى الاستعارة التىتظهر اضطرابا فى وعلاقة لا ملائمة بين الفاعل والفعل والمفعول ،ونسبة " انتظار النداء " اليها بهذه الطريقة يقوى من دلالة التوظيف ويجعل من الحركة المضطربة فى وجدان الشاعر ،حركة متواصلة ودائمة ،لايستطيع التخلص منها إلا بتحقيق الحدث والفعل المنتظر


أأكتشف البحر
إذ يتفضض لون الغبار؟
وينحدر الزبد / الموج
حتى أعانق فيك غناء السماء
وجرح بدايات هذا الضياء

هذه اللوحة الوجدانية النفسية المحاصرة بالاستفهام تؤكد الحقيقة التىعليها الشاعر فهويناجى ذاته من خلال نافذته ومن خلال المركبات العامة للصورة المتعدية إلى احتواء المعالم من حوله والتى تعد عناصر مكملة للشاعر والتجربة فالبحر هنا هنا يمثل حضورا واضحا منذ البداية لكنه كان متمثلا فى الزورق ، وهنا التمثيل يطوى فى جنباته لهفة اللقاء والموعد لمضروب فى الذهن والذاكرة والاستفهام هنا فى غير حقيقته وهومسند إلى الخيال والوجدان هذه العلاقة التى يحاول الشاعر إقامتها بين العقل والطبيعة البيئية هى عملية تقارب بين هذه المعالم الطبيعية الرمزية وبين ذات النص والشاعر والقارىء ، وتلك حلة من التجانس ودمج الحسى بالمعنوى ، وخلق حالة من التوحد والانصهار يقوم على اساسها العنصر البيانى والصورة فى التجربة ، حتى تبدو الفكرة ذات دلالة تتصف بالبوح والغموض أحيانا من ذلك قوله

إذ يتفضض لون الغبار
والصورة اللونية المرئية هنا هى قوام التعبير واستعارة الفضة كلون وإضافته للغبار هو على سبيل التأكيد للموقف ، والحالة الشعورية واعتقد ان هذا يجعل من الصورة الشعرية على حد قول د.ساسين عساف :
"هى التعبير ،هى التجسيد الروحى والحسى لهذا الإيقاع الكونى المتعدد والواحد"(1)
والصيغة المضارعة التى ورد فيها الفعل يتفضض تجعل حالة انعدام الرؤيا قائمة ،مما يعنى أن عدم الاستقرار النفسى الوجدانى كما هى منذ بداية النص ، كذلك الغبار الذى تحول من معناه وحقيقته إلى خاصية من خصائص الطبيعةالنفسية ويصبح عاملا مساعدا فى تحقيق الفعل والصورة والموقف كل ذلك جعل اللقطة بعيدة فى تأويلها تعتمد الرمز والتلميح .
وقوله :
وينحدر الزبد / الموج
السقوط هو التأويل المباشر للتركيب والمراوغة الناتجة عن الجمع بين الزبد والموج تخلق حالة من التشابه والتماثل الذهنى المعقول فالمواصفات التى لحقت بالصورة المشبهة تبدو حقيقية واقعية تؤكد على أمر قد يكون ممكنا
ــــــــــــــــــــــ
(1) الصورة الشعرية د.صبحى البستانى صـ90




حتى أُعانِقَ فيكِ غناءَ السماءْ
وجُرحَ بداياتِ هذا الضِّياءْ
( أينفرجُ الزَّمنُ الوغْدُ
في سلَّةِ الأُمنياتِ
والغاية هنا تبدو متحققة وتبدو من النهائى متطلبات الصورة التى تلخص المشهد الذى عاد فيه الشاعر إلى نفسه وامنياته وضيقه وتبرمه ولعل التركيب " وجرح بدايات هذا الضياء " يؤكد ذلك وينفى عملية الاستقرار التى يريد الشاعر أن تتحقق والصورة هنا وانتقالها من حالة الحقيقة إلى حالة المجاز ووصف الزمن بهذا الوصف والاعتراف بأن الامنيات مصيرها هو السلة يجعل من النص الاخير فى مشهده حالة تنتهى وتبدأ مرة بعد أخرى ولا نهاية لتكرارها أو الشكوى منها .وفى النهاية فإن الصورة والتجربة فى نص وردة من د ماء تفرض مجموعة من الدلالات أهمها أن النص والصورة يجعلان من الاشياء الغير متجانسة وحدة وعلاقة يمكنها أن تربط بين المحسوس والمعنوى وبين الخيال والواقع وبين المرئى والمسموع فالوردة والدماء لا يرتبطان بصلة أو علاقة داخلية سوى إمكانية اللون ومع ذلك فقد نتج عنهما نص وصورة النص يعود على اللغة ومنحنياتها والصورة تعكس وجدان الشاعر الذى يؤدى دور الوردة الرمزى فى عدم الموائمة والملا ئمة



ْ













السبت، 29 أغسطس 2009

حديث جانبى

حديث جانبي ..
شعر: د. حسين علي محمد
قراءة الدكتور نادر أحمد عبدالخالق
بحث فى التجربة والصورة
لن يرجِعَ للطّائرِ هذا الرِّيشُ الوامِضْ
بالفَرحِ الدَّافقْ
روحي العاريةُ المثقلةُ بقيْظٍ خانقْ
تعبثُ بكُراتِ الثلجِ النَّزِقَهْ
تلبَسُ قُفَّازَ العادةِ
تدخلُ دهليزَ الشَّفْرة
تبرأُ من طقسِ الدَّهشةِ
يتداخلُ نقْعٌ وغبارٌ
وأنوثةُ عنصرها
هذي الصحراء !
(2)
تتفجّرُ في الشريانِ ينابيعُ اللغة الطِّفْلهْ
يتفجّرُ في الأُفقِ البرْقُ
يُعانقُ ضعْفي وجنوني
أيتها الأمطارُ الصّحراويةُ
مازالتْ بيْنَ أناملِكِ السحريةِ دِلتا روحي
تسألُني في الليلِ سُلالةُ رملكِ
هلْ أنتَ القادمُ يوماً
لتُضَمِّخَ روحي
بالأشعارِ الورديّةِ
وهواجسِكَ الطِّفْلهْ ؟
(3)
ـ يا منْ أرسلْتُكَ ، أوْجدتُكَ
كيْ تكتشفَ عذابَ النبتةِ
وتفرُّدَها بالصَّرخةِ
ماذا … ؟
ـ لن يغتالَ سكينة روحي فرسانُ النَّرْدِ
ولن يقدرَ فارسُهُمْ أنْ يزرعَ وردتَهُ
في عَبَقِ الجرْحِ
ولنْ يُطلِقَ لحظاتِ النشوةِ
غرباناً سُحْماً
تقتحِمُ سمائي
ديرب نجم 31/1/1991


العنوان:
حديث جانبى
قصيد للدكتور حسين على محمد والتقدير هذا حديث جانبى حذف المبتدأ اسم الإشارة وبقى الخبر ، والخبر هنا لا يقف عند حدود العنوان بل يتعداه إلى النص ومايحتويه من دلالات وعلاقات متواصلة مع المبتدأ المحذوف تقديرا ، والحالة التى جاء فيها الخبر هى الإفراد لتركيبيه (حديث – جانبى ) ولو تأملنا الحالة الإسنادية المسند والمسند إليه ، لوجدنا أن لذلك دلالة تعود على المعنى الموضوعى للعنوان ، حيث يتوافق المعنى مع الدلالة ، مع اهمية المحادثة الخاصة ، وكأن النص حالة من الإفضاء بأشياء نفسية فى المقام الأول ، لا يجب البوح بها ،أو أن البوح بها يحتاج إلى من يستطيع ، أن يتلقى ذلك التصريح الوجدانى الشعورى ، حيث يؤدى الوصف والتشبيه دورا مهما فى توضيح خصوصية ، الحديث الذاتى ، الجانبى الشعورى . وتلك حالة نفسية تعكس مدى صدق التجربة عند الشاعر .

النص :
بداية الطاقة التشكيلية التعبيرية ، عند شاعرنا الدكتور حسين على محمد واضحة المعالم ، بارزة مكتملة ، لا يجد الشاعر كبير عناء ، فى أن يقدم لنا ملامحها عبر نصوصه وهى تمثل أركان التجربة لديه ، وتمثل أبعادالرؤية والموقف والحالة ، النفسية الداخلية والخارجية ، وتمثل البعد المتصارع لديه وتحقق أمرين الأول : البعد عن الغنائية ، والثانى : التدفق الشعورى المتواصل لرسم أبعاد التجربة كذلك تقف هذه اللوحات على العديد من ملامح الحياة الخاصة للشاعر والتى هى جزء من الملامح العامة ، للحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية ،التى نتأثر بها جميعا وهذا جانب آخر من جوانب التجربة عند الشاعر ، يضاف إلى ماسبق أن حسين على محمد من خلال هذه اللوحات ، قد رسم لنفسه خصوصية شعرية ، تمثل الشخصية الإبداعية لديه ، وتمثل جزء كبيرا من معاناته ، التى مر بها على مستوى الإبداع ، وعلى مستوى الواقع المعاش ، فالصورة أو اللوحة التعبيرية التشكيلية لا تتركك دون أن تلقى بك فى عالم من الأسئلة ، التى تمثل صراعا نفسيا مشتركا ، بين الشاعر والقارىء

ويقول الدكتور على عشرى زايد :
إن الصورة الشعرية " واحدة من الأدوات التي يستخدمها الشاعر الحديث في بناء قصيدته وتجسيد الأبعاد المختلفة لرؤيته الشعرية . فبواسطة الصورة يشكل الشاعر أحاسيسه وأفكاره وخواطره في شكل محسوس ،وبواسطتها يصور رؤيته الخاصة للوجود والعلاقات الخفية بين عناصره . وإذا كان الشاعر الحديث- بشكل عام – يستخدم إلى جانب الصورة الشعرية أدوات وتكنيكات شعرية أخرى ،فإن هناك من الاتجاهات الشعرية الحديثة ما يعتمد اعتمادا أساسيا على الصورة الشعرية "(
[1]) .
وهذا ما قام به الدكتور حسين فى جل أشعاره حيث لا ينفصل لديه الإحساس عن ترجمته للوجود ، والعالم من حوله ، والنص الذى بين أيدينا "حديث جانبى " يقف على كثير من الأفكار التى ناقشتها ، وطرحتها ، كرؤية تحليلية لأبعاد التجربة الكلية ، الداخلية والخارجية .

والنص ينقسم إلى ثلاثة أقسام كل قسم منها يمثل بعد تشكيلى أو لوحة تصويرية لها خصوصيتها ، فى التعبير والإدراك وتمثيل ذات الشاعر ، ينتقل بواستطها من حديث إلى آخر كما صرح هو بذلك من خلال العنوان،دون أن يفقد السيطرة على البعد التشكيلى الكلى للنص ، ودون أن ينغمس باكيا ، أو يكشف لنا عن أسراره دفعة واحدة
يقول الشاعرفى المقطع الأول :

لن يرجِعَ للطّائرِ هذا الرِّيشُ الوامِضْ
بالفَرحِ الدَّافقْ
روحي العاريةُ المثقلةُ بقيْظٍ خانقْ
تعبثُ بكُراتِ الثلجِ النَّزِقَهْ
تلبَسُ قُفَّازَ العادةِ
تدخلُ دهليزَ الشَّفْرة
تبرأُ من طقسِ الدَّهشةِ
يتداخلُ نقْعٌ وغبارٌ
وأنوثةُ عنصرها
هذي الصحراء !
هذه اللوحة التصويرية تفسر كثيرا من ملامح التجربة عند الشاعر ،ولأن الصورة الشعرية فى المقام الأول، هى درجة من درجات التطور عند الشاعر ، حيث تمثل مصدرا مهما ، من مصادر الرؤية التوظيفية لديه ، فإن من المفيد أن نقف هنا على مصادر هذه الصورة ، ومدى استفادته منها ، فى بناء الفكرة ، وفى وجود العلاقة الإنسانية بين النص والقارىء ، وبين النص والعالم الخارجى للذات المبدعة ، وهذه عملية فى غاية الدقة ، وفى غاية الأهمية ، لأنها لا تقف على معالم التجربة فقط ، بل تتعدى ذلك ، إلى درجة من درجات النمو والتدريج للعملية الإبداعية داخل النص ، وداخل وجدان الشاعر .
والمصادر هنا فى أولى تقريباتها تنقسم إلى قسمين :
الأول : خارجى طبيعى يتمثل فى الاستعارة التى يقدمها الطائر فى حالته التى هو عليها، وهى حالة انحرافية غير أصلية . لكنها لا تبعد عن كونها صورة حسية ، مما يجعل المصدر الاول للتجربة فى النص مصدرا حسيا ، احتمى خلفه الشاعر ، ليقدم مشهدا من مشاهد النفس الإنسانية المعاصرة .
الثانى : وهو البعد المعنوى الرمزى ، الذى يمثل الناحية النفسية الداخلية للنص والشاعر ،وهذا يمثل ترجمة حقيقية للمعاناة ، والآلام التى يعانى منها إنسان العصر الحديث .
والمتأمل فى مفتتح النص يصطدم بحالة من النفى والإثبات التى يتضمنها الفعل المضارع المنصوب ( لن يرجع للطائر هذا الريش ..... ) ( الوامض بالفرح الدافق )
والصورة اللغوية هنا لا تقف عند حدود المنع المطلق بل تتعداه إلى عملية نقل غاية فى التركيب الدقيق حيث نقل المحسوس بدرجته ، إلى المعنوى الوجدانى العميق ، أنظر إلى كلمة : الوامض واستعارتها الرقيقة الدقيقة التركيب ، حيث تدل على اللمعان الخفيف ، وعند نسبة هذا اللمعان إلى الريش تلاحظ أن هناك توفيقا فى الإسناد ، وإحساسا بالصورة ، وقدرة فى التوظيف .
وكلمة : الفرح - و الدافق
فنسبة الدافق التى تدل على السرعة فى الحدوث ، هذه السرعة غير مفسرة لما تحتويه على كتمان وسرية ، من ضعف الملاحظة وعدم مواءمتها للحدث النفسى المشاهد بواسطة الصورة المركبة الدقيقة ، يدل على الملاءمة الفعلية للفرح ، الذى يترجم البهجة المتمثلة فى الريش المفقود ، والذى سيفسر بعد ذلك بالحالة التى عليها الشاعر ، الذى خلعت عنه البهجة ،والسرور ، ويمكن ترجمة ذلك بالمعاناة الإنسانية فى وقتنا الحاضر . وتبديل المظهر الخارجى (الريش) الزاهى ، بسلبيات الحياة والعصر .
ثم تكتمل هذه الرؤية وتتضح وتترجم إلى واقع حقيقى حينما تتعلق بالنفس والروح دون الجسد، يقول الشاعر:
(روحي) العاريةُ المثقلةُ بقيْظٍ خانقْ
وهذا تحول من المحسوس المدرك المقرب بواسطة المصدر الخارجى (الطائر) إلى المعنوى الذى سرعان ما يتحول هو الاخر ، عندما يحل الفعل المضارع نائبا عن الحركة داخل الصورة ، تعبث - تلبس - تدخل
تبرأ - يتداخل ........
والمدرك لتركيب : قيظ خانق
ودلالته ونسبته الانحرافية الخارجية بصفته مصدرا مساعدا من مصادر التجربة يمكنه أن يقف على حقيقة الافعال السابقة حيث الدلالة التى يحتويها كل مركب يتلائم مع التوظيف المسند إليه ، فنسبة العبث إلى كرات الثلج تتوافق مع وجود القيظ، ونسبة تلبس ، تبرأ ، تدخل ، يتداخل تتوائم مع العلاقة التى نشأت من دلالة الاستعارة فى الصورة .
ويقول الشاعر فى المقطع الجزئى الاخير ، مقدما صورة تداخلية متطورة ، تدل على عملية النمو الداخلى للنص والصورة ، وارتباطها بالمصدر الخارجى المباشر، ولا أبالغ إذا قلت أنها صورة فريدة فى تركيبها ، وفى علاقاتها ، وارتباطاتها الدلالية الخارجية ، والداخلية حيث نسبة الأنوثة الرقيقة ،إلى الصحراء التى لاتعطى إلا الجدب والقحط والحيرة ، والشاعر هنا يطارد نفسه من خلال مطاردة الوجود والمحيط ، الذى يمتزج فيه الساكن بالمتحرك فى رتبة واحدة ، فسكون الصحراء ما هو إلا دلالة على حركتها المستمرة ، والتى تمثلت فى أنوثة تخرج عن حقيقتها إلى مجازية المصدر ، والملاحظ أن الشاعر قد وقف على مجموعة دلالات تصور حقيقة الموقف التصويرى لديه .
الدلالة الأولى : أن الصورة لديه واقعية ، والواقعية هنا ليست الواقعية المعروفة بتقسيماتها الكلاسيكية ، وإنما هى حقيقة التجربة وصراحة التفسير والتعبير عن الإبداع كحالة شعورية متدفقة تعكس الحياة والإنسان والوجود، والذات المبدعة .
الدلالة الثانية : أن التأويل القريب فى هذا المقطع يفصح عن عملية تداخل مركبة للمعوقات التى تعبر عن المعاناة التى يمثلها النقع والغبار، والانوثة المركبة والمشتقة من عنصر ،لا يفصح عن حقيقة التأويل ، يقول الكاتب :
يتداخلُ نقْعٌ وغبارٌ
وأنوثةُ عنصرها
هذي الصحراء !
والمتأمل يجد أن الصورة لا تلهث وراء الساكن والجامد بل تحاول استنطاق هذا الساكن ، ولعل الإضافة التى نسبت الأنوثة إلى الصحراء ، بطريقة انحرافية هى التى عمقت من الدلالة الأولى والثانية .

وفى القسم الثانى الذى يمثل اللوحة الخاصة ذات التعبيرالنفسى الوجدانى المتعلق بالخصوصية ، التى يفصح فيها الشاعر عن دواخله ، فى حوار نفسى ومنولوج درامى مركب تركيبا داخليا وخارجيا يقول مطورا الأداء النفسى ومستخدما نفس المعادل الموضوعى التراثى " الصحراء" كتشكيل ثابت وخلفية اساسية تدور فى فلكها الصورةالتعبيرية :
(2)
تتفجّرُ في الشريانِ ينابيعُ اللغة الطِّفْلهْ
يتفجّرُ في الأُفقِ البرْقُ
يُعانقُ ضعْفي وجنوني
أيتها الأمطارُ الصّحراويةُ
مازالتْ بيْنَ أناملِكِ السحريةِ دِلتا روحي
تسألُني في الليلِ سُلالةُ رملكِ
هلْ أنتَ القادمُ يوماً
لتُضَمِّخَ روحي
بالأشعارِ الورديّةِ
وهواجسِكَ الطِّفْلهْ ؟
والمحادثة تتحقق مباشرة من خلال البعد المتحاور فى النص ومن خلال العملية النفسية الازدواجية التى تقوم عليها الصورة . " كمعادل موضوعي للتجربة الذاتية ؛ حيث كان يتخذها قناعا يبث من خلاله خواطره وأفكاره ، "والقناع – كما يقول البياتي –هو الاسم الذي يتحدث من خلاله الشاعر نفسه متجردا من ذاتيته ؛ أي إن الشاعر يعمد إلى خلق وجود مستقل عن ذاته ، وبذلك يبتعد عن حدود الغنائية والرومانسية التي تردّى أكثر الشعر العربي فيها "(
[2]).
ولعل من المفيد أن نقف قليلا عند أهمية المعادل الموضوعى فى شعر الدكتور حسين على محمد وهل تحقق له الخلوص من الغنائية والرومانسية بفضل عملية التداخل التى نشأت من الازدواجية النفسية ، وابتعد عن الوقوع فى الغنائية ، أم جانبه ذلك ؟

الحقيقة كما ذهب الدكتور على عشرى زايد فى نظرته لهذه القضية واستند اليه الدكتور محمدابراهيم حسين عوض عند دراسة التجربة عند بلند الحيدرى الشاعر الكبير معتمدين على مقولة البياتى، أن التجربة عند الدكتور حسين لا يمكن أن تنفصل بأى حال من الأحول عن العمق الدلالى للصورة القائمة على المعادل الموضوعى واللوحة التى بين أيدينا تؤكد ذلك :

فالبرق - والأمطار الصحراوية - وسلالة رملك
كعلاقة خارجية ومعادل موضوعى :

مقابل العلاقة الداخلية المتحاورة فى:
في الشريانِ ينابيعُ اللغة الطِّفْلهْ
يُعانقُ ضعْفي وجنوني
أناملِكِ السحريةِ دِلتا روحي
دليل على أن الصورة عند الشاعر مركبة من نفسه ووجدانه أولا ومن المعادل الموضوعى الخارجى ثانيا ، فالبرق والأمطار ذات الخصوصية التى تتعلق بوجدان الانسان عموما خاصة إنسان الصحراء والبيئة الصحراوية عموما وكذلك الطبيعة الرملية ، أصوات وألوان ، متداخلة فى نسيج الصورة ،وفى محيطها العام ، تظل عاملا مساعدا للفعل والحركة الداخلية للصورة ، ومعادلا موضوعيا ينوب عن وجدان الشاعر ، ويقدم علاقة بيانية انحرافية ، ذات أثر بالغ فى التشكيل العام للصورة والموضوع .
وجاءت الحركة داخل الجملة الفعلية لتقدم ملمحا أخر فى البعد الكلى للصورة تأمل معى الأفعال : تتفجر - يتفجر - يعانق فالفعل الأول مسند إلى الشريان وهوإسناد مجازى ، منقول من طبيعته الأصلية ، إلى طبيعة استثنائية ، حيث تعلق باللغة الأولى التى عبر عنها بالطفلة ، وهو تعبير مسند إلى غير حقيقته الأصلية ، والفعل الثانى "يتفجر" البرق وهوقريب فى دلالته ، والفعل الثالث " يعانق " وهو يمثل العودة إلى حقيقة الذات المبدعة ، وحقيقة التجربة لدى الشاعر ، وصوره المشتقة من الملمح الخارجى ، فالعناق هنا حالة استعارية ، غير أصلية فى إسنادها وفى وظيفتها ، حيث نسب إلى الضعف والجنون ، الذى أحالته ياء المخاطبة إلى ضمير الشاعر، وإلى ذاته المعذبة ، كذلك النداء "أيتها الأمطار الصحراوية" الذى يتحول بفعل الحديث الجانبى إلى استجداء ، وإلى استعطاف ، دليل على وجود النسبة التعادلية للفعل والتجربة ، كخلفية قامت عليها الصورة والختام الجزئى بالاستفهام فى نهايةاللوحةوالمقطع يقول الشاعر :

تسألُني في الليلِ سُلالةُ رملكِ
هلْ أنتَ القادمُ يوماً
لتُضَمِّخَ روحي
بالأشعارِ الورديّةِ
وهواجسِكَ الطِّفْلهْ ؟
وهو يمثل عودة للشاعر من رحلته النفسية إلى واقع الحياة ، وإلى مهمته ودوره ، وعدم الإجابة أبلغ من الإجابة ، حيث أن الحديث الاستفهامى مسند إلى واقع مجازى ، وإلى حقيقة وجدانية .
وفى القسم الأخير ، أوفى اللوحة الأخيرة، يتحرر الشاعر من ذاته ، ومن خصوصيته النفسية ، إلى الإفصاح عن أهميته ودوره وصرامته يقول معاتبا فى حديث جانبى ذاتى رقيق :

(3)
ـ يا منْ أرسلْتُكَ ، أوْجدتُكَ
كيْ تكتشفَ عذابَ النبتةِ
وتفرُّدَها بالصَّرخةِ
ماذا … ؟
ـ لن يغتالَ سكينة روحي فرسانُ النَّرْدِ
ولن يقدرَ فارسُهُمْ أنْ يزرعَ وردتَهُ
في عَبَقِ الجرْحِ
ولنْ يُطلِقَ لحظاتِ النشوةِ
غرباناً سُحْماً
تقتحِمُ سمائي
والمتامل فى الصورة يجد أنها اعتمدت على نوعين من الأسلوب الإنشائى والخبرى
النداء وحالة الثبات الناتجة من الجملة الاسمية ، مما يجعل الاستفهام حالة دائمة ،ذات خصوصية داخلية تنتج الرد وتنتج السؤال فى آن واحد وتلك إحدى دلالات التركيب داخل الجملة الشاعرية للدكتور حسين على محمد .
وتأمل الحوار الداخلى والحديث الجانبى فى ( ماذا ....... ؟ ) والتى جاءت عقب خبر وإجابة محذوفة .
والمقطع الاخير فى اللوحة :
الذى بنى على التأكيد والنفى والإثبات والنقل من الحسى إلى المعنوى ومن ثم التحويل الانحرافى الوجدانى النفسى المعتد على الاستعارة ، والتى تعكس حالة من الهياج الداخلى الذى يقوم بدور كبير فى الرد والإنابة عن المتحاور الداخلى فى النص ، وتلك حالة من التعبير عن الإصرار وعدم مواصلة المشوار فى ظل هذه المتغيرات ، وفى ظل الشتات الناتج عن التداخلات الحسية والمعنوية ، المعاصرة والإنسانية التى يحاول الشاعر الوقوف عند تأويلها وفض مكنونها.







(1) عن بناء القصيدة العربية الحديثة ، د/على عشري زايد ، دار الفصحى للطباعة والنشر ، طـ1 سنة 1977،صـ68.
( 2 ) استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر ، د/ علي عشري زايد صـ24 ، وهو منقول عن عبد الوهاب البياتي ، تجربتي الشعرية ، منشورات نزار قباني 1968 صـ35 .

طقس قصيدة للدكتورحسين على محمد قراءة وتحليل الدكتورحسين على محمد

طقس طقس
طقس
قصيدة للدكتور حسين على محمد
قراءة وتحليل
الدكتور نادر عبد الخالق

كلامٌ موشَّى ..
ووعْدٌ كذوبٌ ..
يُميتُ انصهاريَ فيكِ
وصرخةُ فجْرٍ تموتْ!

فكيْفَ أرَاكِ .. كما أنتِ ..
في ظُلمةِ الليْلِ
في وهدةٍ للأنينِ المخاتلِ

في هجْعةٍ للسكوتْ؟!

الرياض 4/12/2007م














رؤية تحليلية :
هذه القصيدة القصيرة والمقتضبة القليلة الكلمات المكتنزة بالدلالات الكثيفة تستطيع من خلالها أن تقف على ملامح التجربة عند الشاعر الدكتور حسين على محمد وأول هذه الملامح
1- صدق العاطفة ورهافة الحس والشعور
2- القدرة الفائقة فى تحويل الموقف وترجمته إلى شعر وتجربة مكثفة
3- التصوير البارع المباشر تامل معى القصيدة على النحو التالى
كلامٌ موشَّى ..
ووعْدٌ كذوبٌ
كلام - وعد
موشى - كذوب
هذا المقطع الذى يبدو سهلا فى منطوقه يعطى دلالات تصويرية مركبة لحال الإنسان المعاصر فنسبة الكلام الى الوعد ونسبة موشى اليهما لا يمكن أن تعطى إلا النتيجة التى تمثل الحقيقة التى تضمنتها صيغة كذوب المبالغة فى منطوقها اللغوى والتى تتوافق مع معطيات الواقع
كذلك الدلالات الاستعارية فى موشى وكذوب تؤكد ماسبق

يُميتُ انصهاريَ فيكِ
وصرخةُ فجْرٍ تموتْ!

وهذا المقطع التصويرى المركب من التضاد والتراجع لحال الإنسان يمكنك قراءته هكذا :
منثورا : موت أمل
موت حياة
انصهار وموت (موت وانصهار)
وترتيبه شعوريا كدفقة واحدة
يميت انصهارى (وعد كذوب )
( كلام موشى)
النتيجة : ( صرخة فجر تموت )
التصوير الاستعارى :
يميت ( المسند والمسند إليه )
= استعارة ونسبة الفعل
الى غير حقيقته
انصهارى (التصريح بالضمير )
يؤكد صدق التجربة
ونسبة الموت الى الانصهار
كدلالة استعارية يقف على
ان القصة تشتمل على
بعد "درامى" قصصيا
وان هناك حدثا وحبكة صيغت
شعريا
وصرخة فجر تموت
والعطف هنا يحقق أمرين الاول استمرارية الحوار الداخلى المتوتر جدا والذى يعبر عن حال المبدع والتجربة
الثانى نسبة الوصل التى عمقت من الصدق وجعلته
عاما لا يقتصر على فضاء الشاعر وحاله بل امتدت
الىالجميع ولو ان هناك فصلا وحذفت الواو لوقف التأثير عند الموقف واصبح الامر عاديا
كذلك نسبة الصراخ المجازية الى الفجر وإعلان موتها
فى صورة استعارية مستمرة يجعل من القصيدة ملخصا لكثير من همومنا الاجتماعية

والمقطع الاخير :

فكيْفَ أرَاكِ .. كما أنتِ ..
في ظُلمةِ الليْلِ
في وهدةٍ للأنينِ المخاتلِ

في هجْعةٍ للسكوتْ؟!

وقد بدا بالاستفهام مما يعن عدم القدرة على مواصلة الرؤية وإعلان العزلة وخاصة أن الشاعر نسب الرؤية للظلام فى الليل وفى وهدة الانين (المراوغ)
وفى سكون السكوت حيث تستحيل الرؤية
وغير خاف ما فى المقطع من دلالات وصور استعارية عميقة عند الوقوف على فحواها ندرك أن الشاعر الأديب حسين على محمد يمتح من معين جوده لا ينضب معتمدا على قريحته وحسن التقاطه للصور وتوظيفها وتمثيلها قياسا نفسيا
وإبداعيا يقف على واقعنا المعاصر اجتماعيا وادبيا وفلسفيا يقترب من نفسه اولا حيث التعبير والصدق ثم يعكس غيره متمثلا ذاته

يدل على ذلك كلمة (طقس)
التى جعلها الشاعر عنوانا للقصيدة ومعروف أن الطقس مفهوم يرتبط بالغلاف الجوى والمناخ وحركة الحياة والمعيشة حيث يصعب احيانا مجاراة الطقس عندما يشتد تحوله بردا او حارا مما يدل على الاستعارة هنا عامة وشاملة تخص الجميع وان نسبة المفاهيم الخاطئة والكاذبة والغير معلومة او المبررة احيانا يقف امامها الانسان كما يقف امام الطقس عاجزا او مستعيرا ما يعينه على تقبله ..













الغزالة قصيدة للدكتورحسين على محمد قراءة وتحليل الدكتور نلدر عبدالخالق

الغزالة قصيدة للدكتورحسين على محمد
قراءة وتحليل الدكتور نادر أحمد عبدالخالق
(1)
الغزالة
شعر: حسين علي محمد

قُزحيَّةُ الألْوانِ في قممِ الجبالِ
قَمْراءُ في أَلَقِ اخْتيالِ
في ثغْرها بعْضُ القصائدِ
والحروفُ مُهمْهِاتٌ
هلْ ستبدأُ بالنِّزالِ؟
في بدْءِ أحرُفِها الرَّشيقةِ ..
تصْهلُ الرَّغَباتُ في جسْمٍ تدلَّلَ بالجَمالِ
في غابةِ الأطْيافِ غابتْ
والمَدى رحْبٌ
ووقْدُ الحبِّ يعْصِفُ بالخَيَالِ
ماءٌ لهذي الأرْضِ
يرسُمُ بحْرَهُ في الأوْجِ
يُطلقُ سُفْنَهُ في الموْجِ
يرفعُ صوتَهُ في موكبٍ للحجِّ…
أيْنَ غزالةٌ طارتْ من المجنونِ في قممِ الجبالِ؟
صنعاء 25/11/1986م



















قصيدة الغزالة قراءة وتحليل
الدكتور نادر أحمد عبد الخالق

تحليل العنوان
الغزالة : مصطلح ودلالة ، يذهبان بالنص إلى حقيقتين، أولاهما : العنوان وثانيهما : المعنى القريب المعروف : وهو الحيوان البرى ، الذى يعيش فى المراعى الخضراء ، يطارده الإنسان والحيوان ،وهاتين الحقيقتين :لا تحتاجان إلى تأويل أو تعيين أو تفسير، وهما كما هما ، لكن التحليل يفرض نفسه عندما يكونالنقل والتمثيل والقياس ، أدوات استخدمها الشاعر حسين على محمد ، فى وصف صورة مرئيةليس للحيوان وروعته وجماله ورشاقته ورمزيته القريبة والبعيدة فقط ، وإنما يتعدى الوصف إلى ذات الواصف نفسه، والعملية التركيبية للحالة النفسية ، وتفسيرها بالحركة والصورة ، التى عليها الغزال ، وهى ليست للغزال فى المقام الاول بقدر ماهى للشاعر والتعبير عن تجربته فى الغربة تعبيرا تركيبيا يكشف لنا قدرا كبيرا من معاناته ،والاحتماء خلف رمزية الغزال .وهذا يجعلنا أمام أمرين على مستوى التصوير
أحدهما : موضوعى
والآخر : فنــــــــــى
الموضوعى : وهو العملية التشكيلية التى قامت عليها القصيدة الفنى : وهو مايمكن أن نطلق عليه التصوير المرئى أو المشاهد وهو نوع من التصوير المستحدث فى شعرنا العربى وما جعله تحدثا أو جديداأن الشاعر العربى قديما كان يصف مجردا ولايهتم بوصف ذاته أو دمج الحالين إلا فى القليل النادرواعتقد أن ذلك نظرا لقرب المعايشة للموصوف المحكى .وحديثا أصبح لتصويرمرئيا مشاهدا وليس مسموعا فقط والدليل على ذلك ما نراه فى صورة غزال الدكتور حسين على محمد الذى نعتها بالأنثى مبالغة فى خلع المعنوى على ذات المحسوس .أمر أخر وهو التركيب اللغوى النحوى لمدلول العنوان وهو أن الغزالة ( العنوان) مبتدأ خبره النص ، والنص وصف وتجسيد ومحاكاة تعود على الموصوف كدلالة أولى وتعود على الذات الشاعرة كدلالة ثانية . ومن بين الدلالاتين يمكننا الوقوف على البعد النفسى للنص والشاعر وهوالشوق ولوعة الفراق والحنين إلى الوطن والأهل والأحباب .



















النص التشكيلى المصور:
وهو النص الذى يقوم على الصورة اساسا والذى يقدم دلالات متعددة للصورة المركبة والتى ترى أكثر ما تسمع ،وقد استطاع الشاعر أن يقدم لنا وصفا بصريا فى المقام الأول حيث نقل المشهد المصور نقلا دقيقا وكأنه لوحة ترى وتشاهد أكثر ماتسمع ويمكن تسمية ذلك بالصورة البصرية التى تعتمد على حاسة البصر حيث تضارب الألوان وتعدد الحركات والأفعال والتأثير على لب وعقل القارىء والمشاهد وذلك بفضل الخاصية البيانية البلاغية التى استأثرت بالتشبيه والاستعارة والخيال والتمثيل والرمز كلها اساليب اعتمد عليها النص اعتمادا مباشرا .

الصورة الشعرية ( البصرية ) (المرئية ) :
وهى التى تعنى القصيدةالمشاهدة بجانب الحقيقة السمعية وبجانب البعد اللغوى الذى يقدم مجموعة الإدراكات كاملة ، والذى يقف على الأبعاد التركيبية للجملة ، والفعل ، والحالة الشعورية ، للنص والمبدع، حيث ترى الفعل ، والحركة ، والايقاع ، أدوات يعتمد عليها الشاعر فى الوصف والتجسيد والمحا كاة ونقل الشعور، تماما كما يفعل الرسام عندما يستخدم الألوان والفرشاة فى نقل الصورة وإبداعها بطريقة تعبيرية دقيقة بارعة فيحول الجامد الساكن إلى حركة وفعل وإيقاع يرى ويشاهد وذلك ماقدمه لنا الشاعر فى وصفه للغزالة وتأمل معى هذا المقطع : يقول الشاعر الدكتور حسين على محمد
قُزحيَّةُ الألْوانِ في قممِ الجبالِ
قَمْراءُ في أَلَقِ اخْتيالِ
هذا المقطع يشاهد ولا يقرأ أو لايمكن قرائته بدون مشاهدة حيث يغلب عليه الرسم والتصوير فخاصية التعبير اللغوى جاءت لا حقة لخاصية الرسم والتشكيل البصرى فالمقطع الأول أو السطر الأفتتاحى

(قُزحيَّةُ الألْوانِ) في (قممِ الجبالِ)
يحتوى مقطعين كل منهما صورة مشاهدة ، وكل منهما حركة وصفية استعارية مركبة تركيبا دقيقا ، يتناسب مع طبيعة الموصوف ، ويتناسب مع صفاته ، ويفصل بينهما حرف الجر الذى يؤدى وظيفة تركيبية هو الأخر، ففضلا عن دلالاته اللغوية النحوية ، إلا انه يقوم بوظيفة هامة وهى الوظيفة الزمنية ، حيث يتضمن معنى الظرفية ،التى تبدو استثنائية ويتضمن معنى المكانية الحالية وهو ما يتناسب مع صفة الغزال ، التى لا تركن إلى سكون دائم ، بل تعتمد على التنقل والحركة وعدم التوقف كثيرا ، وكذلك تتحقق المشاهدة فى وصفها بالقزحية ، وعدم حذف النتيجة (الألوان) ينفى أن المقصود من الدلالة فى (قزحية ) هو الحركة ، ويثبت ما ذهب إليه الشاعر من نسبة تعددية الألوان والحيرة فى التقاط اللون الفرد أو التمييز والثبات على صفة لونية واحدة وهوما يعكس حالة من الحيرة وعدم الاستقرار مما يدل على جدلية الصورة ، ويدل على أن الصورة متضمنة ،نصا أخر يبدو فى الحوار الداخلى ،الذى يتعدى الوصف الخارجى إلى تقديم الحالة الشعورية الوجدانية للشاعر ،فالحوار مشترك بين الشاعر والغزال كلاهما حائر كلاهما يحوى العديد من التعبير( فالغزالة تملك الرشاقة والدلال وروعة المنظر والقدرة على التأثير المرئى – والشاعر يملك التعبير والوصف والترجمة المباشرة للصورة والحركة ) والمقابلة بين الحالين ، يقدم السر الكامن وراء التجربة ، ويقف على دلالات الصورة البصرية ،المرئية التى تتضمن الوصف الخارجى ، وتتضمن الوصف الداخلى، الأكثر تأثيرا فى عملية التركيب التى قامت عليها الصورة
ويأتى التركيب الثانى ( قمم - الجبال ) فى صيغته الجمعية متقابلا مع الجمع فى (الألوان) ليعطى حالة من الخيال الخصب المراوغ الذى لا يقف عند حدود التشبيه القريب بل يتعداه إلى ما هو أبعد من ذلك
والتركيب التالى يقترب فيه الشاعر من وصف ورمزية ودلالة المشبه و يحدد بها تلك الحالة النفسية الشعورية حيث يقول:
قَمْراءُ في أَلَقِ اخْتيالِ
وهى صورة رمزية حركية ، تتناسب مع صفة المشبه ، ومع حالة الشاعر، فهى قمراء وليست قمرية ، مما يعنى أن المقصود بالوصف والتشبيه ليست الصورة النهائية ، وإنما الصورةاللونية التى تبحث فى حقيقة الشىء ، وتقف على تراكيبه ومكوناته ، والنتيجة أن الموصوف مازال على حالته وصفته الحيوانية ، لكنه من قزحيته وكثرة ألوانه وعدم وقوفه عند صفة لونية معينة ،أصبح قمرا مضيئا ، هذا القمر ( ألق يختال ) (- فى - ) ، شأنه شأن الغزال المرواغ فى حركته وطبيعته التى هى ضد السكون وفى عدم استقراره على طبيعة لونية محددة وهذه المرواغة قد تعينت فى الصفة المختالة التى تعنى الزهو والمرح والدلال ، وفى النهاية أنت أمام صورة قمرية حائرة لاتستقر على حالة لونية ثابتة مما يؤكد أن القصيدة مشاهدة بفضل الاعتماد على الصورة التجسيدية للغزال وأن الصورة التوظيفية ،التى اعتمد عليها المقطع الافتتاحى ، هى الصورة البصرية المرئية المشاهدة .

وفى المشهد الثانى التفصيلى الذى يشرح فيه الشاعر المشبه ويحدد اوصافه ويذكر الدلالات التى من أجلها أقام تلك العلاقة ونسج منها أبعادا درامية حوارية لا تعود على الوصف فقط وإنما تعود على التجربة وبعديها الوجدانى النفسى والحسى الحركى المتضمن معنى النص ومعاناة الشاعر وصعوبة الترجمة ودقتها عند التحويل من الساكن إلى المتحرك يقول الدكتور حسين على محمد:
في ثغْرها بعْضُ القصائدِ
والحروفُ مُهمْهِاتٌ
هلْ ستبدأُ بالنِّزالِ؟

المتأمل فى التراكيب الشعرية الثلاثة 1- في ثغْرها بعْضُ القصائدِ .
2- والحروفُ مُهمْهِاتٌ .
3- هلْ ستبدأُ بالنِّزالِ؟
يجد أن السطر الأول : هو مثار الجدل والجذب ، وأن الثانى: تشبيه بعيد فى تأويله يخص التجربة الشعورية الإبداعية للشاعر وأن الثالث : تصوير للبعد النفسى والحركى ، وخصوصية العلاقة الجدلية بين المشبه ، والعلاقة التى تحول النص إلى حرب ونزال ، والأسلوب الذى ورد فيه النص 1- الجار والمجرور والإضافة المتضمنة معنى الظرف ، الذى يؤكد أن التجربة ، تعتمد من هذه الحالة ،على خيال استثنائى ، سرعان ما يزول ، وكذلك نسبة القصيد إلى الثغر ، على سبيل الاستعارة ليس إلا دليلا على أن الصورة متحركة بعيدة ، فى تأويلها وفض تراكيبها ، وكذلك كلمة ( بعض) التى توحى بالقلة ، وهى عكس الكثرة ، دليل أخر على حالة الظرفية ، ودليل على الاستثناء ، وأن المنظر كان طارئا ، وليس هناك متسع لعملية التمثيل 2- العطف ( الوصل)بين الجمل والتراكيب ، وخاصة إذا علمنا ان العطف هنا بين المعنوى والحسى المدرك ، حيث خصوصية الحرف ، مقابل خصوصية الصحراء وصيغة الجمع التى وردت فيها (مهمهات) كحالة شعورية ليست عابرة
3- والاستفهام الذى ورد فيه السطر الأخير، دليل على أن هناك نزالا ، من نوع خاص يدور رحاه ، بين الشاعر وبين المنظر المصور، الذى وردت فيه الغزالة ، هذا النزال فى المقام الأول نفسيا وجدانيا ، وكذلك عملية التأمل الخاصة للكلمات

- (ثغرها ) ( علاقة أولى مصدرية تمثل فضاء عاما للصورة )

و- (القصائد – الحروف)
- ( مهمهات – النزال ) ( علاقة ثانية تفصيلية تجسد العلاقات المصورة)

والنتيجة : (القصائد – الحروف )
و(مهمهات – النـــزال )

يمكنك من خلال نسبة الألفاظ وعلاقاتها إلى بعضها البعض ، أن تدرك أن العلاقة الأولى ، هى علاقة الفضاء الخارجى ، وعلاقة التكوين والجمع بين مركبات الصورة ورموزها وتشكيلاتها المتعددة والمتنوعة ، وجاءت النتيجة لتفض هذا الجدل ، حيث نسبة القصيد إلى الحروف ، نسبة ليس فيها تعدى ، ونسبة العراك والنزال إلى المهمهات والصحراء ، متوازنة وليس فيها تعدى ، هذا إذا كانت الدلالة مباشرة ، أو أن البحث مرتبط بالدلالة القريبة ،إنما البحث والتحليل هنا قائم على حقيقة التصوير، كبعد نفسى وجدانى ، يسجل المظهر الخارجى ، كلوحة جدارية يختبىء ورائها الشاعر والمبدع عامة ، ليبث همومه ومعاناته وإشكالياته ، وهذا ما قام به الدكتور حسين على محمد

قراءة الصورة ( المحكية)
في بدْءِ أحرُفِها الرَّشيقةِ ..
تصْهلُ الرَّغَباتُ في جسْمٍ تدلَّلَ بالجَمالِ
في غابةِ الأطْيافِ غابتْ
ينتقل الشاعر إلى مرحلة أخرى من فنية التصوير وهى الحكى بالصورة وخصوصية الحوار الداخلى الذى يقف على ملامح التشكيل بداية من الحرف ووصفه بالرشاقة وهو وصف إسنادى تأسس منذ العلاقة الخارجية الأولى المعروفة فى الضمير والوجدان وحاول الشاعر من خلاله إقامة علاقة أخرى جديدة مستفيدا الحالة الاسمية الناتجة عن الإضافة وفى تعبير ( تصْهلُ الرَّغَباتُ) المركب تركيبا استعاريا ليعطى المزيد من الا نحراف الوظيفى ، ويقف على البعد الوجدانى ويجعل من الشاعر قاسما مشتركا بين النص والتجربة وبين الذات الإنسانية ،بصفته ممثلا لها ،وهنا تتحقق الصفة الحوارية عندما نسند العلاقات السابقة الثلاث 1- (الوجدانى) 2- (الشاعر) 3- (الذات الإنسانية ) إلى المعادل الموضوعى النصى وإلى التجربة ذاتها والتى يمكن تحديدها فى (الرغبات) (الفاعل)للمعاناة و التى تعانى منها الذات ويترجمها الشاعر فى صورة وجدانية مركبة

ولعل الفعل المتضمن معنى الحدث الذى اعتمد عليه الحوارفى تأطيد الحكى وهو (تصْهلُ ) جاء فى صيغة المضارع المستمر والذى يتمتع بالحرية وعدم التقيد حيث ورد متمتعا بالضم (الرفع) غير منصوبا أو محدودا بحدود الحالة والعاطفة وجعل من الرغبات فاعلا محركا لمكونات اللوعة والحرقة وهو إسناد تركيبى غاية فى التصوير والتركيب خاصة أن ما جاء بعده مكان محدد بحدود معلومة وصريحة تخصصت فى جسم إنسان من صفاته أنه يتدلل بالجمال مما يجعل التأثيرا مباشرا وسريعا وتاركا ورائه حالة من الخوف والجذع وفى الاستعارة التالية يزداد التأثير والعمق والدلالة الاسمية وتصبح عملية القراءة أمرا واقعيا ضروريا يقول الشاعر:
(في غابةِ الأطْيافِ غابتْ)
( والمَدى رحْبٌ )

المقابلة الأولى بين غابة والأطياف لا تعطى دلالة قريبة حيث يدل الطيف على الخيال المتجدد وقد ورد هنا فى صيغة الجمع مما يجعل الخيال خيالات عديدة مكانها غابة والجمع بين العلاقتين أمر يعكس الحالة النفسية العميقة للذات الإنسانية الوجدانية التى يمثلها الشاعر والنتيجة التى اختصرها الفعل الماضى (غابتْ ) تؤكد على أن الدلالة ممتدة لا تتوقف شعوريا ووجدانيا وأن البحث عن مستقر لن يجدى فتيلا حيث يأتى التركيب التالى (والمدى رحب ) ليبرهن على أن عملية الاستقرار الوجدانى صفة ملازمة للذات والشاعر والتجربة الإبداعية


ووقْدُ الحبِّ يعْصِفُ بالخَيَالِ
نسبة الوقد إلى الحب بطريقة إسنادية يقف على قيمة الحوار الداخلى وعند تقسيم التركيب الى قسمين الأول ووقْدُ الحبِّ
والثانى يعْصِفُ بالخَيَالِ
يمكننا أن نستجلى عنصرا هاما من عناصر التجربة وهو أن أوار الحب يشتت الخيال وذلك أمر غاية فى الوصف والحكى الاستعارى المركب من مجموعة الدلالات الإسنادية
وقد – يعصف
الحب – الخيال
النتيجة أن هناك وقد واحتراق يأكل الخيال الذى يساعد فى تقريب الحب ومعالجته ونسبة العصف إلى الخيال مجازيا حيث استحالة الفعل واستحالة الحدث مع خصوصية الاستمرار التى تأصلت فى الفعل المضارع ماهو إلا دليل على مواصلة الحالة الشعورية والحالة النفسية وهنا اشترك فيها الشاعر والإنسان والذات

فى المقطع الأخير تبدأ نفس الشاعر ممتزجة بالذات الإنسانية والنزعة الوجدانية والتجربة تهدأ مترسمة خطاها الاسترشادية نحو الطمأنينة هاربا من نفسه إلى نفسه من صورة إلى أخرى من حالة إلى حالة أخرى وتلك لأن الشاعر قد استطاع بمهارة أن يعزل بين النص وبين الشاعر وبين تركيبته الإنسانية المستقيمة فلم يستمر فى معاناته وبث آلامه بل عاد إلى حيث النزعة الإبداعية الأصيلة والتكوين الأخلاقى الفطرى وليس المكتسب أو الطارىء وهذا عكس شعراء الرومانسية وشعراء البكاء وذلك ما يجب أن يكون عليه الشعر والإبداع يقول الشاعر الدكتور حسين على محمد فى صورة جديدة مستحدثة داخل النص تعكس بعد جديد بجانب الوصف الذى بدأ به الشاعر القصيدة وهو صورة عامة وجدانية وكأنها أمنية مستلهما الصورة القرآنية لسفينة نوح عليه السلام مع اختلاف السبب والمظهر وتوحد الوسيلة :

ماءٌ لهذي الأرْضِ
يرسُمُ بحْرَهُ في الأوْجِ
يُطلقُ سُفْنَهُ في الموْجِ
يرفعُ صوتَهُ في موكبٍ للحجِّ…
والمتأمل فى الأفعال ( يرسم – يطلق – يرفع )
ونسبتها إلى الماء فى تحقيق الأمنية فى صيغتها الاستمرارية المضارعة وتضمنها المعنى الاستعارى الذى يهفو إلى البحر والموج والحج مركبات تقف على توحد عناصر التجربة عند الشاعر والذى يعكس حالة من الاستقرار الوجدانى الذاتى والتركيب الأخير يأتى ليعود الشاعر من خلاله إلى غرضه الأساسى وهوالوصف يقول:
أيْنَ غزالةٌ طارتْ من المجنونِ في قممِ الجبالِ؟
الاستفهام والبحث عن الغزالة هواستفهام وبحث عن نفس الشاعر وأمنيته وهوعود على بدء ولا يخفى ما تكنه رمزية (المجنون ) ودلالة البحث عن الحب ومشروعيته وصعوبة واستحالة البحث فى قمم الجبال وتلك عملية تمثيل استعارية كان بطلها الشاعر الذى يقوم بعدة أدوار مركبة تكشف عن صدق العاطفة وحرارة الوجدان وأن الالتجربة لديه ليست مجرد محاكاة لتجارب سابقة وإنما هى حقيقة ومعاناة استلهم فيها الموروث الأدبى والدينى وأوجد لنفسه مساحة من التعبير الحر كان من نتيجته هذه القصيدة التى اندمج فيها الحاضر بالماضى فى اشكال تعبيرية تصويرية تجعل من النص أجزاء ثلاثة ولوحات ثلاث منها ماهو موضوعى كالوصف والخيال والحوار الداخلى والخارجى ومنها ماهو فنى بالدرجة الأولى كالتجسيد وحسن التقسيم للنص وإنشاء صورة خارجية وأخرى داخلية الأولى تختص بالموضوع والمكان والبيئة والطبيعة والثانية تترجم القدرات والمهارات الفنية التى قام عليها النص