الأحد، 11 ديسمبر 2011

إيقاعات سردية

إيقاعات سردية
                                                                      الدكتور نادرعبدالخالق
                                                                                                  من مشاركتى فى مؤتمر دمياط الأدبى صيف2011
                                                                                                                                 
فى رواية " بيت الخلفة " للروائى " محسن يونس" يتحقق الإيقاع السردى التصويرى والموضوعى بطريقة مركبة تجمع بين الصورة البصرية والسمعية مباشرة فى سياق تعبيرى، لايقف عند حدود المتخيل العام فقط، وإنما يطرح ويقدم وجهة نظر سردية تتعين فى الشكل والمضمون والطرح والمعالجة، والسعى وراء البناء النصى المتطور، مما يجعل النص تطبيقا مباشرا لفكرة الإيقاع السردى التى ينطلق فيها الكاتب محققا توازنا فنيا وفكريا، يهتم بالأركان العامة والعناصر الروائية المعروفة، دون أن يغفل دوره وطموحه فى طرح الرؤية التجديدية التى تستوعب هذه الأركان، ويمكن القول أن عملية التقسيم الفنية والموضوعية التى اعتمد عليها الكاتب، كانت سببا فى حشد النص بالعديد من الدلالات الإيقاعية، التى صاحبت العنوان وافتتاحية النص، ومقدمات الأدوار السردية منذ بداية التعبير وحتى النهايات الجزئية والكلية للنص والدور، وتلك عملية معقدة لأن التركيب الإيقاعى لم يقف عند حدود التشكيل التصويرى، وإنما امتد منذ الدلالات العنوانية فى صور عديدة وفى أنماط مختلفة وفى اتجاهات مكثفة نحو تحقيق الدلالة الفكرية والموضوعية، ونحو تضمين النص بأفكار قصصية سردية تتعلق بشخوص ومواقف اجتماعية إسقاطية، دون أن يكون أى مما سبق هو الهدف الأول للكاتب، حيث لم يتوقف عند ركن أو عنصر خاص، وإنما شملت الرؤية التطبيقية لديه المحيط والفضاء النصى القائم على جدلية الصورة الخارجية.
 والمتأمل فى أولى إيقاعات النص والمتمثلة فى العنوان " بيت الخلفة " يجد أن الكاتب يطرح فضاء عاما وخيالا مركبا ومعقدا يجمع بين الدلالات الموضوعية والفنية التى لاتبعد عن الرمزية اللغوية الغنائية والقريبة من الصورة الشعبية الفلكلورية، بالإضافة إلى البعد الموسيقى من خلال إيقاع الصورة الخاصة لكل مفردة قصصية استهل بها المشهد، فالعنوان جملة اسمية ثابتة لاتتغير ولا تتبدل ولاتوحى بذلك فى الماضى والحاضر ولا فى الدلالات المنتجة بواسطة الصورة أو عبر الإيقاع، مما يدل على أن الإشارة هنا متداخلة وليست فردية، إذا تأملنا النص تأملا مكانيا، بناء على جدلية الإسناد وعملية الحذف والتحقيق الضمنى للصورة كمنطلق عام بعيدا عن الخصوصية الموضوعية،  وهذا يعطى انطباعا موضوعيا للقارىء أنه بصدد حكاية مكان أفرز مجموعة من الأشخاص، وأنتج مجموعة من الأحداث والمواقف، وكانت القراءة التصويرية هى العنصر الذى استحوذ على فكر النص وتجربة الكاتب، بالإضافة إلى فكرة التعبير بالمكان " بيت"  كمأوى وملجأ فى دلالة النكرة وما تشير إليه من صفتى العموم والشمول، وإسناد " الخلفة " رمزيا واستعاريا لهذا المتخيل الصامت، صورة والمنفعل إيقاعا وحدثا، وكان لذلك هدفين سعى الكاتب لتحقيقهما فى النص : الأول خاص بعدم انتساب البيت والواقع إلى شخصية أو حدث أو تصور موضوعى محدود، الثانى متعلق بعملية الحشد الهائلة التى استعان بها الكاتب داخل النص والتى أتاحت له أن يقدم الرؤية الموضوعية فى مظهر جدلى يتعلق بالصورة الخارجية أكثر من ارتباطه بالصورة الداخلية، أضف إلى ذلك ما صاحب المنهج البنائى للنص من سرعة وإضمار وتضمين على مستوى الرمز والتصريح، وعلى مستوى الأدوار التمثيلية التى ورد فيها النص والتى انعكس أثرها على عملية العرض وتقسيم الهيكل الداخلى فيما يشبه القصة القصيرة، وفيما يشبه التتابع السردى غير المتواتر مباشرة المتواتر ضمنا، بناء على عمليات التكثيف الناتجة عن إيقاع الحدث المتنقل عبر الصورة البصرية، ومن ثم وتقديم الجانب الموضوعى المركزى " الصورة الموضوعية " مباشرة منذ الوهلة الأولى دون أن يغفل أو يهمل الصورة الافتتاحية ومن ثم التأكيد على عملية البناء المركب كإيقاع للنص والفكرة.
من هنا فإن العنوان لوحة بصرية مضمرة صامتة تشير إلى حيز وفضاء عام أشير إليه بـ "البيت" وهو متخيل مكانى وكانت الرؤية المتوافقة ضمنا مع منطوق " الخلفة" ورمزيتها كخلفية لايمكن قراءة الصورة بما تعنى من تداعيات حدثية وعناصر موضوعية بدونها، لذلك فإن الحركة الفعلية فى النص قائمة على تتابع " الخلفة " وانتقالاتها الزمنية والفعلية فى حيز وفضاء الصورة الأولى " البيت " مما يؤكد أن الصراع بين الفعل والصورة والمد الشعبى قائم على الخلفة ورمزيتها البعيدة دون البيت الذى يمثل الحيز الفضائى فقط. وقد أشار الكاتب فى ثنايا السرد إلى ذلك من خلال رمزية المرأة البيت والرجل قيم هذا البيت يقول فى " دور عصفور الجنة " : فاطنة ورجل يكلمها والفهم والإدراك للسامع اللبيب، أن الذى يبوح هو رجلها، ورجلها صاحب الأرض، يشقها نهر، جاء أو نزل، خلق أو تطور- القصد- تهيأ، فدرج إلى أليفة من ذات الجنس، وبذر ملح الذرية، فى بيت الخلفة واستولد، أكل شهدها، فومها، وعدسها، بصلها وثومها، وتهنأ بمائها، وسعى فى مناكبها، قام فى حجر من صخر وتمثال، وخاض معاركها، انتصر وهزم، حياة، دنيا، ألف الأغانى وصدح بالموال : ياليل ياعين.. الستر والفضح معا حياة .. دنيا."  (16) والمقارنة هنا قائمة على إدراك المتخيل وعملية التقريب الضمنية التى قام بها الكاتب فتحول المكان بداية من العنوان إلى أشخاص وقضايا تتفق وطبيعة الطرح، والانتهاء إلى إيقاع سردى عام يشمل النص وعناصره الكلية، وتصبح الصورة الخارجية هى المصدر الرئيسى الذى يمتح منه الفكر السردى الداخلى .
 وقد أشار الكاتب فى صدر العمل إلى ملمحين: الأول يتعلق بالإشارة إلى صورة القص والسرد وعملية الإنشاد الإيقاعى التى ستحيط بالنص وصوره كدلالة تعبيرية وتعينت فى الإهداء " للمنشد المحب - والمنشد الطواف " وتفسيره لفكرة " التعديد " فى الموروث الشعبى والتراثى حينما استدل ببيتين من الشعر يؤكد بهما هذه الحالة السردية وطريقة الإيقاع والتعبير واعتماده على الترديد والخيال السمعى والبصرى يقول فيهما :
لـولا الحيـاء وأن أزن ببدعـة    مما يعدده الـورى تعديــدا
  لجعلت يومك فى المنائح مأتمـا    وجعلت يومك فى الموالد عيدا (17)
والمفارقة هنا لاتقف عند " التعديد " أو الرثاء للواقع أو بكائه فقط وإنما تتعدى ذلك إلى كونها ملامح إنشادية وإيحائية تصويرية خاصة بمفهوم الفكرة المباشرة وكونها أداة وطريقة سيتعلق بها الأداء السردى فى النص، ووسيلة من وسائل الإيقاع التى سينعكس أثرها فى النص،.... الملمح الثانى : ويشير إلى ثقافة الكاتب وتكوينه الفكرى والإنسانى واعتماده على أفكار وأطروحات تتعلق بعملية التعبير والتصوير الخارجى من ذلك ما استعان به من تأصيل لفكرة التعبير بالصورة الخارجية والمتمثل فى مقولتى " رفائيل ألبيرتى – وستاندال " كدلالات تمثل معادلا فكريا موازيا لطموحات الكاتب وتجربته، وهذا التصرف يؤكد على طريقة السرد التى سيتبعها من حيث الاعتماد على إيقاع الواقع وتنوعه وانتقالاته الموضوعية والذهنية الفنية فى النص حسبما تقتضى الصورة الخارجية والموضوعية، وحسبما تنتجه من إيقاعات وجدانية أحيانا وإيقاعات فكرية وفنية تتعلق بالتصرف فى الشكل وتضمين الصورة بواقع موضوعى فى صور عديدة مختلفة، تفرض نفسها وتطرح أيدلوجية خاصة انعكس أثرها على النص وتقسيماته.
عتبات النص :  فى نص " بيت الخلفة " قسم الكاتب الهيكل إلى أقسام عديدة نتج عنها صورا بلغت أربع عشرة عتبة، هذه العتبات تمثل فى ذاتها دلالات موضوعية وصور نفسية ذات صلة بالواقع من منظور الكاتب ومن خلال شغفه بالصورة الخارجية التى كانت سببا فى محاصرة نماذجه فى تلك الصور وفى هذا الإطار، وهى تدل على تأكيد حالة الإيقاع التى اتبعها فى النص وتواتر أحداثه، وتدل على عملية المزج بين متخيل الواقع والرغبة فى التجريب، وتقريب الفنون خاصة السردية منها، ودمجها فى إطار فنى وموضوعى واحد، يمكن قراءته من وجوه مختلفة تشير إلى القصة القصيرة وتتصاعد فى نمو تصويرى نحو الرواية فى شكلها الجديد، وفى سبيل تحقيق ذلك يكون هناك توافق بين الصورة على اختلاف أنواعها ويكون هناك تحقيق للمتخيل النقدى الاجتماعى وتسميته وتوصيفه وإتاحة الفرصة للمشاركة فى توجيه الواقع وعناصره الحقيقية، دون أن تتفاوت الرغبة النفسية للكاتب أو يتخلى عن أهدافه فى التعبير والتجديد، وقد تعينت هذه العتبات فيما يلى : ( دور مرساة الهموم - دور دوام البقاء - دور من ربى ومن وعى - دور امشى واتفرج  - دور جفاف البئر -  دور التراب - دور الفاعل القديم - دور الذى مكث وطبب -  دور الذى لاسبع ولابهيمة - دور كامل المعنى - دور عصفور الجنة - دور الدائم المستقر - دور صاحب المعجزة  - دور لطفى الخاتمة .)
والمتأمل فى التكوين الدلالى واللغوى لهذه العتبات يجد أن كل واحدة منها مقسمة إلى قسمين: الأول ثابت لايتغير والثانى متغير بتغير الصورة والقراءة الموضوعية لحركة الواقع، مما يدل على أن هناك إيقاع ثابت والأخر متحول، الثابت خاص بحركة النص الأولى والمتعين فى كلمة " الدور" وهى كلمة ذات دلالة عميقة مركبة حيث تجمع بين الأداء الصوتى الموسيقى واستعارته مجازيا لتقديم المشهد النصى السردى فى صورته الداخلية فى شكل دائرى يقدم الحقائق والمواقف التصويرية، إذ يعد الدور من قوالب الغناء وهو معنى بتقديم النص الصوتى فى صور مختلفة من اللحن مع احتفاظه بالمقام كأساس ثابت لايتغير، وإذا قاربنا بين المعنى الدلالى والمعنى اللغوى للـ " دور"  سنجد أن الكاتب بمهارته وقوة ملاحظته استطاع أن يوظف المفهوم اللغوى والموسيقى للمصطلح والمفهوم، دون أن يفقد الكلمة قوتها وتأثيرها حين استعارها من عالمها الخاص وجعلها محورا ينطلق منه ويعود إليه فيما يشبه الدائرة التى لها بداية ونهاية، والتى أصبحت إيقاعا حدثيا يقدم الصورة البصرية والسمعية فى سياق تعبيرى متحد مع تكوينات " الدور" ومع القالب السردى، واعتقد أن ذلك من شأنه أن يطرح الواقع والحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتحولات التى صاحبت ذلك فى الفترات المختلفة، من وجوه عديدة ومن زوايا مختلفة لاتقف عند وجهة نظر معينة بقدر ما تقدم تيارات متصارعة تستوعب أنماط الحياة وفكر الكاتب ممتزجا بالنص، والقسم الثانى: يتعلق بحقيقة الصورة والتكوين اللغوى وتبعيتها للمفهوم الموسيقى والصلة بالدور وتكوينه، حيث تشير كل كلمة وجملة إلى اختزال الصورة الكلية فى صورة جزئية تنطلق منها وتعود إليها من جديد، مما يؤكد على أن الثبات والتحول فى العتبات السردية ناتج من عملية الإيقاع المقصودة والمحققة موضوعيا وفنيا، وأن الحركة النصية ذات علاقة بالثبات وأن الإضمار السردى الذى صاحب النص فى حالاته المختلفة ما هو إلا صورة من صور التحول الضمنية التى تحتاج إلى مراقبة ومتابعة لسياق النص وصوره المختلفة، التى تتنهى فى سياق المعنى المباشر للعنوان " بيت الخلفة " كضمير مرتبط بتحليل الصورة الكلية، من هنا تصبح العتبات إيقاعا موازيا لافتتاحيات الأدوار، وصورة كلية تحتوى ذاكرة النص وتجربة الكاتب وطموحاته الفنية والموضوعية، وهى ذات أثر فى توجيه النص وفى توصيف محتواه، خاصة فى افتتاحيات المشاهد التى تتكون من أداور وإيقاعات موالية ذات نسق موسيقى تصويرى بصرى، خاصة فى الانطلاق وعند العودة، وكان الانطلاق عبر الشخصيات والأحداث والصور المكانية الثابتة، التى لم يسع لها الكاتب بقدر ما كانت نتائج ضمنية لتوالى السرد والصورة الخارجية .   
وفى الصورة الافتتاحية " البداية " جاء النص معتمدا على ما سبق من تداعيات إيقاعية وتصويرية فكان " الدور " والمطلع البصرى الممتد من الفعل " رأيت " محورا تقوم عليه الفكرة التعبيرية ومتخيلا موضوعيا اعتمد على التقسيم والتجزئة لفعاليات الصورة وعمليات النقد الاجتماعية، وحضور الكاتب بطريقة مباشرة فى جانب الفعل ومقابل للبطل المتشاخص وجدانيا والمتلقى للـ " دور" الحكائى " لطفى"، بجانب القيم الزمنية التى تتمحور فى الانطلاق من الماضى إلى الحاضر دون توقف أو اختلاف مما جعلها ثابتة تتناسب مع ما حدده الكاتب من حيث وضعه كمقابل حكائى للبطل، والملاحظ أن هذه الصورة الافتتاحية استغرقت ستة أدوار كاملة وهى : (دور مرساة الهموم - دور دوام البقاء - دور من ربى ومن وعى - دور امشى واتفرج  - دور جفاف البئر -  دور التراب)  من (1-6) وهى بذلك طويلة قياسا إلى النماذج الروائية الأخرى أو المتعارف عليها، ولولا جدة العرض والاعتماد على المكان كمنتج للشخصية والانتقال إلى الحدث بواسطة انفعالات الشخصية ومواقفها والاعتماد على المتخيل البصرى الذى لاينفصل عن الذات لفقدت الصورة الترابط والتماسك، وكذلك لم يكن هناك تكرار أو حشو أو التفاف حول حدث وذلك لانتظام الإيقاع، وانتقالات المشهد من دلالة إلى أخرى وقد بلغت شخصيات هذه الصورة ما يقرب من ثلاثين شخصية بالإضافة لشخصية الراوى " الكاتب" المعلن عنه صراحة فى أكثر من دور وموضع بـ "ابن يونس" وكذلك شخصية البطل المتأمل " لطفى" ولم يكن اهتمام النص والصورة متعلقا بانتقالات الشخصية فى النص قدر اهتمامه بتطور الواقع وتأثر الشخصية به عبر مواقف وصور تبدو حقيقية فى معظمها وفى أحيان قليلة من صنع الكاتب، ومن تأثره بالخيال الشعبى والفلكلورى والانتقال بالحدث والمثل فى المكان وكأنهما عاملا مهما فى إنتاج الشخصية أيا كان مظهرها وتوصيفها سلبية كانت أو إيجابية نافعة أو ضارة، وقد ساعد ذلك فى ظهور السلوك العام للبيئة والمجتمع فى تصريحات ومظاهر عديدة لم تقف عند متخيل عام وإنما تجاوزت ذلك إلى استعراض واقع عام وفترة زمنية شاهدة على تطور الأوضاع الاجتماعية دون تطور الشخصية الحقيقية الخارجية كما قدمتها الصورة الخارجية يقول الكاتب فى مفتتح دور " مرساة الهموم" : رأيت الشاب ابن العيلة السواح فى البلاد، حن وكن بسمتى على وجهى ولسانى لهج : ياللى شبابك زين وخسارة فى الغربة.. يارب لاتعطى الشباب الغياب، فى ضل الجوامع يلعبون الطاب .. بسمتى على وجهى، ولسانى لهج : يارب لاتعطى الشباب غيبة فى ضل الجوامع يلعبون السيجة.. – لما رأيت الشاب ابن العيلة السواح خانوه وأوقعوه .. دمعتى على خدى سالت، وقلت ياللى شبابك زين، لولا شبابك ما بكت لى عين .. وإن بكيت، يحق لى أن أبكى .. وإن سكت، يلومنى عقلى . يا " لطفى" .. اسمك مثل رسمك، ياعيونك الحلوة .. ملعون أبو الكتابة فى زمن ميلة رقبته شيبت رأسى سكين رشقت وقاطعة لقلبى.. انكسر القلم، وجفت الصحف يالطفى!! .." (18)  فى هذا المفتتح تبدو الدلالة البصرية " رأيت " متضامنة مع الدلالة الإيقاعية " الدور" ذات القالب الغنائى السردى المتوافق مع النصوص الموازية فى صدر الرواية، والتى تتيح للكاتب أن يردد وأن يقيم علاقة متعاقبة مع النص وأشخاصه خاصة البطل المستمع ظاهريا والمناوىء ضمنا للأحداث، وأن يلفت النظر لقيمة وأهمية الكتابة من خلال تدنى الواقع الثقافى رمزيا مقابل الواقع الذى أنتج هذه النماذج، ويستمر الإيقاع التصويرى السردى فى تتابع وتسلسل حدثى حكائى فى الأداور الستة، يطرح القضية ويقدم الشخصية ويرمز للبيئة والمكان والواقع، فكانت الشخصيات تأتى ناتجة عن المواقف وتابعة للمكان وكان لكل دور مواقفه وانفعالاته وشخصياته، ولم ينقطع المد البصرى المتابع للأحداث والواصف للشخوص عن تركيب النص الضمنى وعن شرح وجهة نظر الكاتب الراوى، فى حلقات متتابعة من السرد ومن تشخيص الوجوه التى تعبر عن حالات الرفض وحالات الترابط الموضوعى وانتهائها بانتهاء الدور ثم الابتداء من جديد عبر أدوار أخرى، وكأن الواقع فى تتابع مستمر لايتوقف انفعاله ولاينحسر تكوينه فى نموذج ثابت، وهنا يؤكد الكاتب على بقاء المكان وثباته وتحول الواقع عبر تمظهر الشخوص فى صور عديدة من السرد والإيقاع الذى يتطور داخليا ويصبح فضاء نصيا ومحيطا تخييليا يمتزج بواقع النص، والمتتبع لفضاء الصورة الافتتاحية يجد أن التأثير الشعبى هو المسيطر على أركان الصورة فكان للمثل والتعبير الشعبى والشخصية الشعبية العامة والتصرف الواقعى حضورا وتأثيرا مباشرا بداية من الاقتراب من الموال والعرافة والتصرف النمطى للمتخيل الشعبى، وقد أدى ذلك إلى طرح أحداث وتكوينات سردية فى إيقاع مزدوج ومركب يجمع بين الصورة الخارجية العامة والكلية فى الواقع الداخلى والخارجى، وكأن هناك مقابلة بين واقعين المحلى الخاص والعربى العام من خلال " فلسطين ولبنان وبيروت"، هذه المقابلة كانت سببا فى رصد التحولات الشخصية وفصل المكان عن تلك التحولات، وكأن هناك رفض للتبعية ورفض للتطور الناقص للشخصية، وجاءت اللغة فى هذه الصورة خاصة جدا حيث لم تبعد عن المكان ولم تجار التطور الشخصانى، حيث احتفظت بعاميتها الفصيحة، وكان للتعديد الذى أشار إليه الكاتب أثره فى النص، وهو قائم على بنائية الدور الذى اعتمده الكاتب مدخلا ومحورا للتعبير، أضف إلى ذلك المواقف الأخرى التى التى تعلقت بطرح الشخصيات والأحداث والوقائع التى تؤكد اقتراب النص من الواقع والإشارة إلى المكان بطريقة مباشرة ورمزية، فى حوادث التهريب وإطلاق الرصاص، وواقعة "النمر" ورمزية الشجرة " لابورتى "  وغير ذلك من تكوينات السرد كان من دوافع النص والحكى وبعث الخيال والسرد فى نماذج إيقاعية  تقوم على التصوير المرئى والحركة البصرية، وتحقيق المقابلة بين التطور والانتقال المادى دون التطور الإنسانى الحضارى، حيث اقتصر الرمز هنا إلى الإشارة إلى نوع واحد من التطور دون غيره .
ولم يختلف الحال فى "الصورة الموضوعية" فى نص " بيت الخلفة " من حيث الترابط واتساع رقعة التعبير والإحاطة والشمول بالعناصر والأركان، مما جعل هذه المرحلة من التصوير فى النص تقوم بدور المفسر لماهية الصورة الأولى، وقد استغرقت هذه الصورة سبعة أدوار هى : ( دور الفاعل القديم - دور الذى مكث وطبب -  دور الذى لاسبع ولابهيمة - دور كامل المعنى - دور عصفور الجنة - دور الدائم المستقر - دور صاحب المعجزة) والمتأمل فى هذه الأدوار يجد أن الدلالة التفسيرية للواقع كانت إحدى وسائل التعبير التى اهتم بها الكاتب، حتى أن مقدمات الأدوار تخلت عن الجانب الغنائى اللغوى، واهتم فيها الكاتب بتقديم الشخصية من جانب الحادثة والقضية، ومن جانب التأثير فى المتلقى، مما يدل على أن الإيقاع أصبح فى مواجهة مع الحدث ومع الدلالة التى تتعين من خلال الدائرة التى تقدم الأفكار الموضوعية فى النص، ومن ثم تحققت عملية الاستحواذ للنص فى محيط الصورة الموضوعية، وانقسمت إلى عدة أجزاء تصويرية حسية ومعنوية تبعا للمتخيل العام والقضية التى تدور رحاها فى كل دور من أدوار الصورة الموضوعية، ومن القضايا الموضوعية التى ناقشها الكاتب فى هذه الصورة : الموروث الشعبى، والرمز، والإسقاط المباشر والمقارنة بين الواقع النصى والواقع الخارجى، والربط بين الأحداث التاريخية، والمقاربة الشعبية، والإشارة إلى الشخصيات السياسية والقومية العربية، والدمج بين الحلم والأسطورة والسرد الموالى، كذلك قابل الكاتب فى هذه الصورة بين الأداور نفسها من ذلك ماورد فى " دور الدائم المستقر ودور دوام البقاء"، والمقاربات الجنسية فى أكثر من موضع وفى شخصيات مختلفة، وقد لجأ إلى إيراد بعض الحكم والمقاطع الفلسفية، لاختزال المواقف وتكثيف الصورة والإشارة إلى دلالات متعددة تتفق مع طبيعة الطرح النفسى والموضوعى فى النص من ذلك ما ورد فى " دور الدائم المستقر" مثل " قوة النفس أبلغ من قوة الجسد" ومحاولة الاستفادة من القص الداخلى والسرد الخاص وعرضه بطريق موضوعية، وإن كانت هذه الأفكار هى سمة الصورة الموضوعية فإنها تعد وسائل تقريبية فى النص وتعد من قيم التصوير الفنية والموضوعية ومن ثقافة التجربة التى ينطلق منها الكاتب محسن يونس، والمتتبع لمراحل التعبير يجد أن الصورة تقوم مقام التأثير النفسى وتؤدى وظائف وأدوار تمثيلية تغنى عن التفسير فى بعض الأحيان، من ذلك ما ورد فى " دور كامل المعنى" و دور عصفور الجنة" و" دور الدائم المستقر"  حيث قام الفعل والحدث بطرح الشخصية وعملية الإسقاط والاشارة إلى خصوصية المكان يقول الكاتب فى "دور كامل المعنى" : رأيت ياصديقى أن التاريخ- أيضا – هو نحن والأخرون، هو كل ما فعلناه وكل ما فعلوه، وكل ما أبدعناه وأبدعوه، وكل ما صنعناه وصنعوه، وكل ما فكرنا فيه وفكروا فيه، وكل ما تأملناه وتأملوه، أقول هذا لأنى شاهدت الشريط على بكرتين فى حجم كف اليد فى موضعه من الجهاز المسجل، والتيار الكهربائى بعد هذا يتصل، تدور البكرتان .. مساء الخير عليكم يانجوم العشا، ياصفر زى المشمشة .. الأولة بسم الله، والثانية، والثالثة إلى السادسة، أما السابعة فلاحول ولا قوة.."  ويقول فى " دورعصفور الجنة " : هل كان محمد الورد يعيش هكذا فى سالف الأيام؟ أم شبه له؟ حينما فتح الجنينة دخلت أولا البنات للقطف، ونبه عليهن أن لابد من غمز سيقان الداليا، وبنت القنصل فى صفيحة الماء المغلى لمدة خمس دقائق، وأشار إلى الصفيحة، حيث تفترش الأن أهل بيته، تغذر النار تحتها بالحطب، ودخل الشبان للعزق، والبذر، أو الشتل، ودخل معهم رجل يرتدى على أكتافه عباءة صوفية بنية اللون، فوق بزة سوداء، وحول رقبته المدملكة رباط عنق أحمر، صاح أرمى السلام على الكل، وأقول صباح الفل، اندهش الورد.. اندهش، وكأنه شرب البنج، وكان فعله الوحيد أن يلتفت حوله، أخذ يتلفت دون أن يحصل على لسانه.." ويقول فى " دور الدائم المستقر" : صاح المعلم محمد حسن البناء فى وجهى: ياابنى أنت تلخص الموضوع .. أنا بناء أكره التلخيص، أفصح يابنى.. قلت : أفصح عن ماذا ياعجوز؟ ثم أنك لم تعد تبنى.. تذكر آخر بناياتك .. كانت قبرا .. قال لى: اسخر.. اسخر .. ولكن البناء يكره التلخيص، ذهب إلى أسفل لابورتى الشجرة، يدب على عكازه.. انطفأ نظره، وودع زمنه وكثيرا من أحبابه ومعارفه، يمشى كأنه يزحف، تحت إبطه حزمة من سعف النخيل، يضعها على سطح القبر، يتقهقر خطوة للخلف، يتلو الفاتحة.. ربما ارتكن بعض الوقت إلى جذع الشجرة، وأوسع ما بين ساقيه، وأحنى رأسه ربما نعس، وحينما يقف يحاذر أن يتمطى .." (19) والصورة الضمنية التى تحتويها هذه النصوص الثلاثة التى تمثل رمزية الدلالة الموضوعية هى محور التمثيل فى النص ومحور الفكرة التخيليلة التى انطلق منها الكاتب، لتقديم الأفكار والرؤى الخيالية ففى النص الأول مقاربة بين واقعين أحدهما منتج متطور والثانى مستهلك غير قادرعلى توجيه الفكرة واستيعاب المضمون الحضارى القائم من خلال المقابلة، وقد جاءت القصة الداخلية لتقدم الوجه السردى الخاص، وفى النص الثانى كان الانفعال السردى قائما على حالة الشتات وعدم التأكيد على البعد الذهنى فى النص وكان الطرح السردى متعلقا بالنماذج الشخصية فى صور حدثية والانصهار فى الرمز الواقعى للصورة الخارجية، وفى النص الثالث تبدو الرؤية التقابلية بين السرد والنزعة الفلسفية لفكرة البقاء والفناء وهذا يؤكد أن الصورة الموضوعية فى نص "بيت الخلفة" هى صورة الواقع وأنماطه ونماذجه وقد استطاع الكاتب أن يقدم مظاهرعديدة لهذا الواقع، وأن يطرح فكره وتطوره من خلال عملية الحشد للشخصية وتنوعها وعدم وقوفها عند نزعة فردية أو قيمة معنوية ثابتة، وأدى ذلك إلى تنوع الفكر والخيال فرأينا رؤى بصرية وأدركنا ملامح سلوكية اجتماعية وكانت الدلالة الحسية هى الأقرب إلى ذهن المتلقى، ولم يقف السرد عند ملمح موضوعى خاص بل تعدى إلى استيعاب أشكال تعبيرية مختلفة تعبر عن الواقع وعن فكر وثقافة النص التى تمتح من ضمير وعقل الكاتب وثقافته وتجربته الحياتية، وفى غير مرة كانت الإشارة المكانية واضحة إلى البيئة المحلية الدمياطية كرمزية خاصة للبيئة الكلية العامة، التى لاتقف عند حدود التعبير المباشر وإنما تعدت كل ذلك إلى عمليات تمثيل بعيدة التأثير فى النص والواقع من خلال الصلة الوثيقة التى قامت عليها الصورة الخارجية للنص.
وفى الصورة الأخيرة فى نص " بيت الخلفة" جاءت الدلالة بناء على فكرة الدور التى افتتح بها الكاتب النص من الناحية الموضوعية والناحية الفنية، فكان الاستهلال متعلقا باستحضار النموذج الشخصى، الذى يمثل الفضاء الوجدانى فى النص، وجاء الفكر منصبا نحو المقابلة الواقعية الغريزية للواقع والرمز التشخيصى، من خلال العرض السردى لوقائع مستعارة من الصورة الخارجية ممثلة فى التخدير والحشيش، والدلالات الرمزية المتعلقة بذلك، ومن ثم إفراز التناقض الحقيقى للحياة الخارجية، وجاء الختام الأخير قائما على فكرة الزمن وانتهاء الملاحظة والمراقبة وانتهاء الدور بانتهاء وظيفة الراوى والبطل، ويلاحظ أن التصريح بفكرة ووظيفة الدور لم تتحقق فى الصورة الأخيرة الجزئية، ولم يعتمد الكاتب عليها نظرا للبناء العام المفتوح ونظرا لأهمية الانتهاء بتلك الطريقة التى تنتهى معها الأحداث، وذلك راجع إلى قصدية الانطلاق نحو النهاية وعدم الدوران حول المتخيل الدائرى فى النص وفى صورته الأخيرة، ومن ثم الالتفاف حول إيقاع الختام  يقول الكاتب فى صورته النهائية " رؤية لطفى الخاتمة" وهو أخر مراحل النص : نظر لطفى إلى ماحدث من سليمان كبير عائلة الحبايبة تجار الحشيش نظرة تنطوى على كثير من التجاوز الملغز والمحير، وقد كان بعد وقعته مع أهله – جده وأعمامه- دائم الذهاب إلى بيت سليمان الذى يشبه القصر، وسط أرض القبايبة، والقصر نفسه يختفى بين غابة من أشجار الجازورينا، وأشجار الصفصاف العالية، تجده أمامك وأنت فى سهو فيغزوك الفزع لهذا الظهور الفجائى، يركبه هدوء قاتل، وأنت محاصر، تحيطك ريبة، ويكتنفك غموض، لاحس ولاخبر، لكن أنت فى خطر، تشعر مع ذلك بألف عين تراقبك.. هل تهرب الأن؟! إنك فى مأزق، وشرك، واعتبر جسدك هدفا لطلقة رصاص لن تخرج على قدميك، لأنك دخلت المنطقة الحرام، فأنت غريب، وتشملك لعنة المكان، ولعنة كونك غريبا.." ويقول : بدأت أقص عليه كيف رأيت استمع إلى وكان يسأل عن كل اسم اورده فى قصى، من أبوه منأمه، وإلى أى عائلة ينتسب؟ أين يسكن بالضبط؟ ووقعت أنا فى وهم.. عندما وصلت إلى قصة الشيخ عاشور الكسحان، وأنهيت وقائعها، هش بيده، وصاح : أنت وتعديداتك اسكت.. ثم عاد يصيح : هل تدفع عنى عارى؟! بدأ هو يقص على قصة عن الحاكم الذى حكم مصر، وأقام العدل يمشى على قدمين، رافعا رايته الشفيفةالعفيفة، يزن ويقيس ، ويكيل للكادحين، والحالمين، الحاكمين والمحكومين، فشاركته الطبيعة عدلا بعدل، وأنبتت حقول بر المحروسة وزادت فى العطاء، فجعلت حبة القمح فى سنبلتها فى حجم ثمرة الزيتون.. قلت هل تصدق الحكاية التراثية؟! قال : ولماذا تكذبها أنت؟! .. فوق كل راء راءواسع الرؤية، وأوسع حكمة وأقدر لكل منا عائلة .. جذر .. هل تنظر للشجرة ورقة ورقة؟! (20)
والتداخل الفنى والموضوعى قائم على استدعاء عنصر الزمن والتشخيص فى جانب من جوانب السرد والانتهاء عند رؤية عامة للشخصية والواقع وفتح مساحات من التأمل فى الحياة ومحاولة بعثها من جديد فى رؤية تطهيرية تمت من خلال الاغتسال النفسى والوجدانى والرمز المباشر فى محاولة بناء عالم جديد لم يعلن عنه الكاتب، وإنما يبدو من خلال رحلة الرفض للوقائع المعلن عنها، والتى وردت فى مظاهر وصور فنية وموضوعية دقيقة، فى سياق النص المضمر الذى يمثل انحراف الفعل والتمثيل، وقوة التطابق للمتخيل الخارجى، مما يؤكد أن الصورة الختامية فى نص "بيت الخلفة" لمحسن يونس تقوم على المطابقة بين الفعل السردى وبين الواقع التصويرى الخارجى، وأن المعالجة الفنية هى الحافز لدى الكاتب، حيث عمد على استثناء الجانب الافتتاحى المتعلق بالدور واختتم النص بما يشبه القفل فى الموشحة وفى الدور الموسيقى الذى يعود من جديد إلى حيث ابتدأ، وكان ذلك متعينا فى عودة البطل " لطفى" والراوى الكاتب الذى يتشابه دوره الفنى مع أدوار منشدين الملاحم، وهذا يقودنا إلى حقيقة يجب ذكرها تتعلق بالسرد وأسلوبه ودرجة إيقاعه، وهى نتيجة ضرورية لأنها تؤكد أن الأسلوب السردى ناتج عن الإيقاع، وأن الإيقاع ملحمى فى بنائه الفنى والموضوعى، وتلك الخصوصية الأدائية فى النص تمثل فتحا جديدا يقرب بين الفنون وبين التجارب فى المستوى الواحد وفى المستوى المتعدد على سبيل الجنس الأدبى .
                                                                              الدكتورنادرعبدالخالق