السبت، 12 نوفمبر 2011

شعراء غرباء


شعراء غرباء
الدكتور نادرعبدالخالق
كانت الغربة دافعا للشعراء على مر العصور أن ينطلقوا من خلالها فى تجاربهم محاولين تجسيد الواقع والحنين للأوطان والتعبير عن خلجات أنفسهم، رغبة وأملا فى العودة وفى الدفاع عن قضاياهم ومشاكلهم التى عانوا من أجلها وكانت سببا فى غربتهم والخروج من أوطانهم، والغربة ذات أثر كبير على الإبداع والفنون عامة فهى تمثل عند شعراء كثيرين محور التجربة الرئيسى لديهم، وينعكس هذا بوضوح على الموضوعات وعلى الأفكار والخيال، ويمتد هذا التأثير لينعكس أثره على البناء الفنى للنص، والغربة كما هى شعور فهى أيضا معنى وحقيقة تتعلق بالمكان وحضوره، وتتعلق بالشخصية وزمانها وصورتها الخارجية وإمكانية البحث عن الذات فى ظل اجتياح التغريب وتلاشى الحقيقة الإنسانية، وقد عانى الشعراء حديثا من هذه الأحاسيس، وعبروا عنها فى شعرهم تعبيرا مزدوجا يجمع بين قسوة البعد ومرارة العودة، فى ظل تقلبات الحياة .
 وقد أفرزت لنا الغربة بتداعياتها العديد من التجارب والحركات الشعرية على مدى تاريخ الشعر العربى منذ القدم وحتى عصرنا الحالى، فالشاعر العربى بطبيعته يقيم علاقة نفسية وطيدة بين واقعه وبيئته وبين أموره الخاصة، ويرتبط بالمكان ارتباطا وثيقا يجعله يتذكر مراحل حياته وما صادفه من أمور ومواقف تتعلق بنشأته وتطور حياته، ولم تكن الغربة بعيدة عن القهر والتحولات الاجتماعية فى حياة الشاعر والإنسان عموما حيث ارتبطت أسباب الغربة منذ القدم بالقهر والتداعيات العنصرية والقبلية والاجتماعية والنفسية، ففى العصر الجاهلى تعددت مظاهر الغربة وتنوعت أسبابها من ذلك ما ذكره الأعشى :
ومن يغترب عن قومه لايزل يرى   مصارع  مظلوم  مجرا  ومحبا
وتدفن منه  الصالحات وإن  يسىء   يكن ما أساء النار فى رأس كبكا
ويقول عمرو بن هبيرة :
ومن  تك  فى غير العشيرة  داره   يغضب فتبرد غير مرضى مغاضبه
يرى كل صوت منهم فوق صوته   ولا يوجبوا  منه  الذى  هو  واجبه
ويلاحظ أن تأثير الغربة هنا اقترن بالظلم والقهر النفسى حيث يفتقد الشاعر الأنس ويشعر بالوحدة والوحشة ويفتقر للألفة مع المكان الثانى الذى حل فيه سعيا للمال والعطاء، ثم سرعان ما تبدو الرغبة فى العودة إلى موطنه الأصلى هى شغله الشاغل،  وفى عصر صدر الاسلام كانت الغربة المكانية والنفسية عاملا أساسيا من عوامل التعبير عند شعراء الدعوة خاصة بعد الهجرة والاغتراب والقهر والجهاد والحروب التى خاضها المسلمون الأوائل، وامتد هذا اللون فى العصر الأموى خاصة أثناء الفتوحات الإسلامية وحالة الاغتراب التى كان يعيشها الشاعر العربى، بعيدا عن موطنه وبيئته التى نشأ فيها، وفى العصر العباسى واتساع رقعة الدولة الإسلامية شرقا وغربا وازدهار الحياة اقتصاديا والانفتاح على الثقافات المختلفة لم يعد تأثير الغربة متعلقا بالحنين للأوطان فقط والرغبة فى العودة من جديد، وإنما أصبح للغربة اتجاهات أخرى متعلقة بالنفس والتعبير عن حالات الإنسان فى مراحل التطور السياسى والاجتماعى الذى صحب عوامل الازدهار فى الحياة بشكل عام . 
وإذا تتبعنا غربة المتنبى نجد أنها ترتبط بالخصائص الذاتية، والشعور بالتميز النفسى،الذى يدفع الشاعر مباشرة إلى الشعور بالغربة، وسيطرة أحاسيس تصادمية تظل محاصرة له فى تجاربه، مع اختلاف نوازعها الموضوعية والنفسية، وأعتقد أن ذلك كان دافعا من دوافع التعالى والفخر الذى كان يصل إلى درجة الحنق والغيظ من تفاوت الأخرين وتقلبهم فى التميز وهم دونه كما كان يرى ويتصور، وقد يرجع ذلك إلى عقيدة راسخة فى نفسه نابعة من عالمه الذاتى الذى كان يغرى فيه هذا النزعة المتعالية، دون أن يتبصر حال الأخرين، وأسباب تميزهم وارتيادهم معالى الأمور، وإذا نظرنا إلى شعره نجد أن تحليله لنفسه مقدم على رؤيته للأخرين، وأن بحثه عن المكانة والصدارة فى الملك والثروة والجاه ، دوافع غريزية كانت وراء غربته فى مستويات عديدة لم يخل منها مستوى نفسى معنوى أوحسى مادى، وذلك لإشباع غريزته وتحقيق تواجده المتميز يقول المتنبى فى صباه :
عش عزيزاً  أو مت  وأنت  كريـم     بين  طعن  القنا  وخفق  البنود
فاطلب العز في لظى  ودع  الـــذ    ل  ولو كان  في  جنان  الخلود
لا بقومــي شرفت بل شرفوا بـي    وبنفسي فخرت لا  بجــدودى
إن أكن معجـــباً  فعجب  عجيب    لم يجد فوق نفسه من  مزيــد
أنا تـرب النــدى  ورب  القوافي     وسمام العدى  وغيظ  الحـسود
أنـا فـي  أمة  تداركها  اللـــه     غـريب كـصالح  فى  ثـمود
إن هذا المد النفسى الجارف الذى يعلى من إمكانية الشعور بالاغتراب منذ الصغر كان سببا من أسباب الغربة النفسية التى شاعت فى تجارب المتنبى، والتى تحولت فيما بعد إلى غربة مادية مكانية، حيث لم يستقر به الحال فى مكان لم يجد فيه تميزا نفسيا ومعنويا وماديا، حتى كانت رحلاته بين البلاد والأمصار ليس بحثا عن المال كما كان يظن البعض، وإنما بحثا عن الملك وحب التفوق والسيادة، والشغف الروحى بالوجود فى أماكن لايتواجد فيها إلا من هم على شاكلته، وأعتقد أن المنحنى التاريخى للأمة العربية فى ذلك الوقت كان مسرحا لإمكانية تحقيق ذلك، حيث تحولت الدولة العظيمة، إلى دويلات صغيرة متناحرة، ماتلبث أن تزول وتحل محلها إمارة جديدة، وبذلك كانت الغربة تجتاح الأمة سياسيا ودينيا وطائفيا، وفى كل مكان حتى أن الشعر نفسه كان غريبا لايعبر عن صاحبه بقدر ماكان يتناول الموضوعات الحزبية والطائفية ويعلى من شأن التفرد والتميز، وهذا كان مناسبا لشخصية المتنبى المتميز بطبيعته على صعيد الشعر والأدب، وعلمه بذلك وانطلاقه فى معظم قصائده من هذا الشعور الأدبى النفسى المتميز يقول المتنبى :
ولا  تحسبن  المجد  زقَّا  وقَينَة   فما    المجد إلا السيف والفتكة  البكـر
وتضريب أعناق الملـوك  وأن تُرى    لك الهبوات السود والعسكر المجر
وتركك  في  الدنيـا  دويا  كأنمــا    تداول  سمع  المرء  أُنمله  العشر
إذا الفضل لم يرفعك عن شكر ناقصٍ    على هبة فالفضل فيمن  له  الشكر
ومن  ينفق الساعات  في  جمع  ماله    مخافــة  فقر  فالذي  فعل  الفقر
والمتأمل يجد أن التفسير النفسى لهذه الأبيات لايقف عند حدود الفخر والتعالى والاعتزاز فقط، بل جاء ذلك مظهرا من مظاهر التعبير، عن إمكان تحقيق التواجد المادى والنفسى، ومحاولة نفى الشعور بالاغتراب، فى ظل انقسامات الدولة، والتى طغت مظاهرها على الأفراد، خاصة من هم فى دائرة الحكم والسياسة والأدب، ونخلص من ذلك إلى أن الغربة شعور عام تفرضه الأحوال الخارجية والداخلية للأمم  ذات الشأن الكبير، خاصة عند تحولها من شأنها الأول  إلى انقسام وتراجع وضعف كبير، وهى أيضا درجة من درجات البحث عن الذات والنفس، وعملية نفسية تجتاح الشخصية وتدفعها دائما لإمكانية التميز والحضور والتفوق، وستظل الانقسامات التى شهدتها الدولة الإسلامية الأولى هى التى تغذى هذا الشعور وتجعله  فى منطقة متقدمة من مناطق التفكير عند الإنسان العربى، الذى ينظر دائما إلى ماضيه  ويتأامل واقعه فى حسرة ومرارة، ومن هنا فإن غربة المتنبى بداية لغربة عامة أصابت الأمة، ومن  ثم كانت محاولات التعبير الذاتى لدى المتنبى، هى مجرد تنبيه وتحذير من تداعيات هذه الغربة .
 وقد برع إبن الرومى كذلك فى هذا الجانب النفسى واتخذه وسيلة فى التجديد  وبناء النص معتمدا على تداعى الصفة الشعورية والشوق والحنين للذات التى يسعى لها يقول متشوقا إلى بغداد :
بلدٌ صحِبْتُ به  الشبيبة  والصِّبا   ولَبِسْتُ ثوبَ العيشِ وهْوَ جديدُ
 فإذا  تمثَّلَ   في  الضميرِ  رَأيتُهُ   وعلَيهِ  أغصانُ  الشَّبابِ  تمِيدُ
ويقول فى وداع الشباب مؤكدا غربته النفسية والمعنوية :
بكيتَ فلم تَتْرُكْ لِعَيْنَيْكَ مَدْمَعا     زَماناً طَوَى شَرْخَ الشبابِ فوَدَّعا
ويظل الشاعر محلقا فى سماء التعبير الأدبى والروحى واالنفسى معبرا عن ذاته وتعلقه بوطنه وبطموحه الجديد محددا دواعى الصراع بين زمن مضى وزمن أت فى دائرة نفسية لايبعد عنها، حتى أصبح الاغتراب  سمة  تميز نصوصه  مما  جعل النقاد  يطلقون عليه  شاعر الغربة النفسية .
وفى العصر الحديث ارتبطت الغربة بعوامل حسية  أكثر حدة  مما سبق  حيث  تعلقت  بتسلط الحاكم العثمانى  وقهر السلطة وفقدان الحريات بداية من المد لاستعمارى  الذى  شهدته  البلاد العربية فى نهايات القرن التاسع عشر ومطلع  القرن العشرين، وأصبح النفى والاغتراب القسرى هو السلوك والهدف والسلاح الرئيسى للحاكم والمستعمر يشهره  فى وجه  كل  راغب  فى الحرية  والجلاء، ويمثل ذلك شعراء المهجر فى الأمريكتين الذين هربوا  من بلادهم طلبا للحرية ورغبة فى العيش الكريم، وأسفر ذلك عن حركة أدبية  وشعرية  كبيرة كانت عاملا مهما فى تجديد الفكر وابتداع أساليب تعبيرية جديدة  وتقديم  رؤية  خارجية  لواقع عربى مهترىء، هذه الحركة (حركة الشعر المهجرى) تمثل مدرسة خاصة أمدت الشعر العربى بالعديد من الامتيازات الفنية والموضوعية التى انعكس أثرها على البناء العام للنص وموسيقاه وألفاظه وعباراته لامجال لتناولها هنا، من ذلك يقول زكى قنصل :
يـاعائدين إلـى الـحمى    قلـبي به عـطش وجوع
بـالله هـل فى الـمركب   متسـع لملـهوف ولـوع
وحـزمت أمـتعتي فـيا    قلب ارتقب يوم الرجـوع
  ويقول نعمة قازان :
وكـنت غـنيا مـع الـقـلة    فصرت فقيـرا مـع الكـثرة
ولولا الحبيب وعودي الرطيب    رماني اللهيب إلـى الشـهوة
ولـولا الـرجاء بعـود الرجا     قـذفت بنفسى إلـى الـهوة
وامتد هذا التأثير والانفعال بهذه الحركة الشعرية حتى تخطت حاجز المكان وتعلقت بالنفس وطموحها على المستوى الشخصى وعلى المستوى الإنسانى وأصبحت رمزا لدى الشعراء المعاصرين  حينما يعبرون عن الغربة  والحنين سعيا وراء التفوق والمجد وبعثا للهمم .
وتنحصر الغربة عند خليل مطران فى تصوير النفس وجزعها من المرض، ومن ثم البحث عن معادل نفسى يتمحور فى أهمية المكان وقدرته على التعبير عن الرغبة  فى الخروج  من دائرة الحصار التى فرضها المرض، وتحولت إلى غربة  مكانية  ونفسية  ذات  دلالات موضوعية وتصويرية، يقول الشاعر فى قصيدته "المساء":
داء ألـم فيه شفائي  من  صـبوتي   فتضاعفت  برحـائي
يا للضعيفين استبدا بي  وما  في الظلم  مثل  تحكم  الضعفاء
قلب  أذابته  الصبابة  والجوى  وغلالة  رثـة  من  الأدواء
والروح بينهما نسيم  تنهد  في  حالي  التصويب  والصعداء
والعقل كالمصباح يغشى نوره كدري ويضعفه نضوب دمائي
إني أقمت  على  التعلة  بالمنى  في غربة  قالو تكون  دوائي
إن يشف هذا الجسم طيب هوائها  أيلطف النيران  طيب هواء
عبث  طوافي  في  البلاد  وعلة  في  عـلة  منفاى لاستشفاء
متفرد  بصبابتي,  متفرد  بكآبتــى , متفرد  بعنائــــي
والخطاب هنا يقوم باستدعاء عدة محاور أهمها أن الصورة لم تقف عند حدود التكثيف الأحادى بل تجاوزت ذلك، حتى تحول الخطاب إلى حوار يشمل أطرافا عديدة منها النفس والواقع من منظور كونى بيئى، يجمع بين دلالة الغربة وأسبابها ومعايشتها فى ظل اجتياح المرض الذى تحول إلى غربة وانفعال داخلى قدم الشاعر فيه مجموعة من العلاقات التعاطفية، التى لم تبعد عن توصيف المرض وانحساره فى الغربة كدلالة ومصدر من مصادر التعبير لدى الشاعر.
وعند قراءة التجارب عند شعراء النهضة الحديثة على اختلاف ميولهم واتجاهاتهم المختلفة يلاحظ أن الحنين ومعالجة الغربة لم تقف عند الشوق وقسوة الفراق بل امتدت لتشمل أسبابا أخرى عديدة منها ما هو فنى ومنها ما هو موضوعى وقد ظهر ذلك عند البارودى فى قصائد النفى التى بثها من جزيرة سرنديب بسريلانكا والمعروفة بسيلانيات البارودى، ومن أشهرها قصيدته "طيف سميرة " التى يقول فيها :
تَأَوَّبَ  طَيْفٌ  مِنْ  « سَمِيرَة َ»  زَائرُ    وَمَا الطَّيْفُ إلاَّ مَا تُرِيهِ الْخَوَاطِرُ
طَوَى سُدْفَة َ الظَّلْمَاءِ، وَاللَّيْلُ  ضَارِبٌ     بِأرواقهِ ،  والنَجمُ  بِالأفقِ  حائرُ
فيا لكَ  مِن  طيفٍ  ألمَّ   ودونَـــهُ     مُحِيطٌ منَ الْبَحْرِ الْجَنُوبِيِّ زَاخِرُ
تَخطَّـى إلى َّ الأرضَ  وَجداً،  وما لهُ     سِوَى نَزواتِ الشَوقِ حادٍ وزاجرُ
ألمَّ ،  ولم  يلبَث ،  وسـارَ ،   وليتَهُ     أَقَامَ  وَلَوْ  طَالَتْ  عَلَيَّ  الدَّيَاجِرُ
تَحمَّلَ  أهوالَ  الظلامِ  مُخاطِـــراً    وعَهدى بِمَن جادَت بهِ لا  تُخاطِرُ
فالشاعر هنا لم يقف عند ملامح الغربة المباشرة وألامها بقدر ما لجأ إلى استلهام وتوظيف عاطفة الأبوة والحنين إلى طفلته الصغيرة بنت الخمس سنوات، عن طريق الطيف الذى حل بديلا عن الحضور المباشر مما جعل النص يسير فى طريق التصوير المركب الذى ينتج الصورة تلو الصورة، ويستعرض الملامح النفسية فى رشاقة ويسر، دون الاعتماد المباشر على النحيب والبكاء، فأنت تراه يخاطب الصورة الراكدة فى مخيلته لابنته بواسطة الطيف  فى محاورة وجدانية تأملية تجمع بين اللهفة والحنين واستعراض أحوالها وصفاتها، وينتقل إلى  الدنيا وما تفعله فى الناس، وهنا تبدو الدلالات المركبة من النفس ومن استعراض الصورة الكلية فى ملامح موضوعية شتى، تقدم الحكمة والنصيحة وتصف الحالة التى عليها الشاعر والتى لم تغادرها الشجاعة ولم يتسلل لها الندم، وفى قصيدته " آه من غربة وفقد حبيب" التى بدا فيها ملمح الغربة واضحا على المستوى النفسى والاجتماعى والإنسانى يقول البارودى :
آه من غربة  وفقد  حبيب   أورثا مهجتى عذابا مَكِيثَا
لاتسلنى عما أقاسى  فإنى    بين قوم لايفقهون  حديثا
ويقول:
الى الله اشكو اننى بين معشـر    سـواء لديـهم طيـّب وخبيث
برمت  بهم حتى سئمت مكانتى    وانكرت طيب العيش وهو دميث
والغربة هنا شعور ومعاناة يعانيها الشاعر، وصورة نفسية تتمحور فيها شخصيته، ويدور الظرف حول بعث دلالة الصفة الخارجية، وعدم استواء العشير، مما يجعل الغربة نفسية مكانية، ويأتى التعبير فى الأبيات الأولى ( لاتسلنى عما أقاسى ..) وقوله فى الأبيات الثانية ( إلى الله أشكو) التى يعبر فيها عن شخصيته أصدق تعبير حينما وجه شكواه إلى الله تعالى، باحثا عن الملجأ والمصير فى ظل هذا الاغتراب .
 ويتطور هذا الملمح عند شوقى فى منفاه فى قصائده التى اشتكى فيها الغربة وشعر بالحنين للوطن، وهنا لم تقف التجربة عند الشكوى والحنين  فقط  وإنما استثمرها الشاعر مقدما  لوحة فنية وموضوعية غاية فى الدقة والتركيب، حيث جمع بين التعبير عن ذاته  وحنينه  وشوقه وبين استعراض أمجاد وطنه فكانت الغربة  دافعا  للتألق على مستوى الموضوع  والفكرة، وإذا تأملنا التجربة كاملة سنجد أن الغربة كانت عاملا مهما من عوامل التعبير لديه حيث شكلت موضوعات فى غاية الدقة استلهم  فيها تجارب السابقين حين وقف على أطلال قرطبة فى منفاه، مستدعيا ماضيا حاضرا وتاريخا مجيدا، دفعاه إلى البحث عن موضوع جديد وصورة موضوعية تعتمد على البعد الخارجى الفنى والتصويرى، ومطورا فى أغراض القصيدة الحديثة، فقدم معارضته الشهيرة " اختلاف الليل والنهار " التى استدعى فيها النص والشاعر والتاريخ العريق، وكان للصورة الخارجية، دورا مهما فى اكتشاف الواقع التاريخى، وتقديم جوانب مضيئة من الفن والأدب العربى يقول شوقى معارضا البحترى فى "سينيته"  :
وطـني لو شغلت بالخلد عنه  نازعتني إليه  في الخلد  نفسي
وهـفا بالفؤاد في سلسبيل ظمأ  للسواد  مـن  (عين شمس)
شهد الله لم يغب عن جـفوني شخصه ساعة ولم  يخل  حسي
يا  فـؤادي  لكل  أمر قــرار فيه  يبدو  وينجلي  بعد  لبس
عقلت لجة  الأمور عقولاً  طالت  الحوت  طول  سبح  وغس
غرقت  حيث  لا  يصاح  بطاف أو غريق، ولا  يصاخ  لحس
فلـك  يكسف الشموس  نـهـاراً ويسوم  البدور ليلة   وكس
ومواقيت  للأمور  إذا ما  بلغتها  الأمور  صــارت  لعكس
دول  كالرجال  مرتهنـات  بقيام  من  الجــــدود  وتعس
وليال من كل  ذات  سوار لطمت  كل رب  (روم)  و (فرس)
سددت  بالهلال  قوساً  وسلت  خنجراً  ينفذان  من  كل  ترس
حكمت في القرون(خوفو) و(دارا) وعفت(وائلاً) وألوت(بعبس)
والمتأمل فى النص وفى عموم التجربة يجد أن الشاعر جمع بين عدة اتجاهات تجعل من الغربة حافزا كبيرا للوقوف على جماليات التعبير دون اللجوء إلى الدلالة المباشرة، أو الوقوف عند استدعاء الآلام، فجاء النص معارضة فنية وموضوعية لتجربة البحترى الذى يتساوى فى الحالة الشعورية مع الشاعر، وكانت الغربة النفسية وبعث التاريخ والوجدان هو القاسم المشترك بين الشاعرين، البحترى تحدث عن نفسه وعن نكبته مقترنا مع حالة الإيوان واللوحة الجدارية التى تحمل مجد " أنوشروان " كسرى فى معركته الحربية التى جسدتها اللوحة بخيوطها وألوانها، وشوقى يتناول حنينه من خلال استعراص الصورة التاريخية والوصفية والطبيعية لمصر وحالها وتبدل هذا الحال مع تقديم الذكريات والدلالات الشعورية، وتبدو مهارة الشاعر وقوة التصوير لديه فى استنطاق الصورة الذهنية والاعتماد على مخاطبة الواقع والمستقبل والجمع بين روعة الشعر ورسالته وبين الشعور بالوحدة وفقد الأنس وهجر الحياة الأولى .
والغربة هنا تحولت من معناها المادى إلى معانى تعبيرية تصورية استلهم بها الشاعر الماضى الأدبى والحضارى، وقدم مقارنة أدبية بين عدة صور خارجية، يمكن تحليلها موضوعيا واستنباط مشاهد تراثية خاصة عندما تتم عملية الاستدعاء الكامل للنص الموازى، " صنت نفسى"  واستعراض الصورة الضمنية، التى يجتمع فيها الحوار النفسى لحال الشاعرين عند الوقوف أمام الطلل، ومحاولة استنطاق المشهد التصويرى النفسى الذى تعدى إلى مطابقة الواقع بتقلبات الماضى، والغربة هنا تصبح  توظيفا واستلهاما لمضامين عديدة، تعود على النص، وتشمل  صاحبه  وتقدم  جانبا من  صورته التى عليها وهى لا تبعد عن توصيف  للغربة ومعانيها .
وفى تجارب الشعراء المجددين ( مدرسة الشعر الحر) نجد أن الاغتراب ملمحا من ملامح التعبير فى نصوصهم، حيث تقترن النزعة الشعورية بالذات، ويصبح الهم النفسى والشعور بالوحدة المكانية وإن لم تتباين البيئات هو العامل المحرك للتجربة والباعث عليها، ثم يأتى الشوق والحنين فى سياق الوجدان وفى دلالات الغربة، دون أن تختلف النزعة الفطرية وبواعث الشعور بالفردية الاجتماعية من ذلك قصيدة " غريب على الخليج " للشاعر العراقى  بدر شاكر السياب التى يناجى فيها العراق مستعرضا نفسه ومحددا بواعث هذه المناجاة يقول الشاعر فى قصيدته : 
الريح تلهث بالهجيرة، كالجثام، على الأصيل
وعلى القلوع تظل تطوى أو تنشر للرحيل
زحم الخليج بهن مكتدحون جوابو بحار
من كل حاف نصف عاري
وعلى الرمال، على الخليج
جلس الغريب، يسرح البصر المحير في الخليج
ويهد أعمدة الضياء بما يصعد من نشيج
أعلى من العباب يهدر رغوه و من الضجيج"
صوت تفجر في قرارة نفسي الثكلى : عراق
كالمد يصعد ، كالسحابة، كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ  بي : عراق
والموج يعول بي : عراق، عراق، ليس سوى عراق
البحر أوسع ما يكون و أنت أبعد ما يكون
والبحر دونك يا عراق
بالأمس حين مررت بالمقهى، سمعتك يا عراق
وكنت دورة أسطوانه
هي دورة الأفلاك في عمري، تكور لي زمانه
في لحظتين من الأمان، و إن تكن فقدت مكانه
هي وجه أمي في الظلام
وصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أنام
وهي النخيل أخاف منه إذا ادلهم مع الغروب
فاكتظ بالأشباح تخطف كل طفل لا يؤوب
من الدروب وهي المفلية العجوز وما توشوش عن (حزام)
وكيف شق القبر عنه أمام عفراءالجميلة
.فاحتازها .. إلا جديله
وأول ما يلفت النظر فى هذه الصورة الاغترابية أن الشاعر قام باستدعاء المظاهر الطبيعية البيئية المتعلقة بالمناخ والتى تشير إلى ثنائية المكان والزمان مباشرة  دون مواربة، والتى تطرح الواقع النفسى  والشخصى ليكون محيطا مؤازرا للوجدان الذى  ينطلق منه الشاعر فى غربته، وقد دعاه ذلك إلى الاعتماد على توظيف التشبيه بطريقة حسية، تساعد فى نقل الفكرة التى ضمنها أوصاف الشخصية الخليجية وصفاتها وعملها وارتباطها بالخليج  كمصدر من مصادر الرزق، وقد يكون ذلك بعيدا عن نسيج النص فى ظاهره لكنه من دلالات التعبير التصويرية، التى تؤكد ارتباط الصورة بواقع الشاعر من ناحية وبدلالات العنوان والصورة الأولى من ناحية أخرى، وتؤكد على فنية التقديم عند السياب، كخصوصية ينطلق منها النص وصفة من صفات القصيدة فى مراحلها الأولى فى ذلك الوقت، الذى يشير إلى بواكير قصيدة التفعيلة، بالإضافة إلى البعد الموضوعى الحكائى الذى يتناول الارتحال فى ذلك الوقت، وانتقالات الشخصية الخليجية التى تطرح القضية النفسية بواسطة الغربة فى الخليج من الخليج ( العراق – الكويت ) وهنا تبدو صفات المكان البيئية، وقسوة الحياة الطبيعية ومكابدات الإنسان الخليجى فى ذلك الوقت، والتى تبدو فيها اتفاق الأحوال الموضوعية والنفسية بين الصورتين الخارجية والداخلية، وإذا نظرنا إلى قوة الصورة وقوة التعبير سنجد أن الألفاظ تؤدى وظيفة تصويرية انفعالية، تعكس مدى اضطراب الشاعر، وتترجم كثيرا من تصورات الحقيقة التى يعتنقها النص، ومن يتأمل حقيقة ( الريح ) ووظيفتها النحوية " الفاعلية " وقوة التصوير التى انطلقت من دلالتها البيانية التشبيهية الاستعارية، يجد أن الفضاء النصى الافتتاحى وهو إحدى منطلقات النص، قد تشكل مباشرة من خصوصية الطبيعة التى تتناغم وتؤدى دورا وظيفيا موضوعيا يساعد فى تعظيم الشعور بالغربة، ويطرح انفعالا خاصا بالواقع الذى تتضاءل فيه الشخصية مع قوة وقسوة المناخ والمكان، وتبرز الغربة كحقيقة لاتجدى معها المقاومة، والحقيقة التى تنتهى إليها الصورة الافتتاحية فى ضوء البيان النفسى يمكن حصرها فى صورة : زحم الخليج بهن مكتدحون جوابو بحار / . من كل حاف نصف عاري - إن الصورة التشخيصية هنا لاتقف عند حدود التوصيف للمعنى التقليدى المعروف لمهنة الصيد والغوص والبحث عن اللؤلؤ والسفر والتجارة عند الخليجى فى العهد السابق، والتى أصبحت من التراث فى حياة الإنسان الخليجى المعاصر، أو تقدمه فى صورة بصرية تترجم واقعه المهترىء والمتدنى، الذى لايقف عند حضوره وتمثيله فى صورة من صور الفعل والمحاورة، وإنما تقدم حوارا حكائيا مكثفا لمشروعية التعبير لدى الكاتب، جاء به ليشمل مفردات الواقع ويحل رمزا نفسيا يستشهد به على انتقالاته القادمة، التى تمتد من انحسار الشخصية داخل بوتقة اليأس، وفقدانه الأمل فى الخروج من هذه الدائرة، إلى حالة من التعبير والرغبة فى تقديم المد النفسى الاجتماعى تقديما ازدواجيا يجمع بين إفرازات الواقع وإمكانية تحقيق الغربة الموضوعية.
وعند الشعراء المعاصرين نجد أن الغربة قد تعددت مظاهرها ولم تعد تنحصر فى غربة المكان أو الرحيل أو الهجر، وإنما انحصرت فى الشعور بالتدنى وعدم القدرة على تغيير الواقع ومن ثم سيطرة العزلة النفسية والاجتماعية على الكيان الشخصى حتى أصبح فريسة للتشاؤم والرفض والتمرد والتباطؤ، وقد أدى ذلك إلى وجود حالة من الانفصال عن الذات والواقع، وأصبحت الرغبة فى استلهام الأمجاد التاريخية والتراثية هى المنفذ أمام المبدع عامة حتى يحقق لنفسه تواجدا نفسيا وروحيا يعبر فيه عن ذاته، ويتواصل مع منجزات الماضى البعيد، ورغم التطور التكنولوجى فى مناحى الحياة وخاصة فى جانب الاتصالات " الأنترنت" وسرعة التواصل إلا أن ذلك لم يخفف من الشعور بالغربة والتجاهل فى داخل المجتمع الواحد، من هنا فإن الغربة فى عصرنا الحاضر يمكن تتبعها فى تجارب الشعراء من خلال عدة اتجاهات تتعلق بالبحث عن الشخصية البطولية، وتتعلق بمحاربة العزلة والرغبة فى الشعور بالجماعية وبلوغ درجة التفوق من ذلك ما قدمه الدكتور صابرعبدالدايم فى رائعته " مدائن الفجر" والتى يقول فيها :
معلقٌ بين تاريخي وأحلامي
وواقعي خنجرٌ في صدر أيامي
أخطو فيرتدُّ خطْوي دون غايته
وما بأفقي سوى أنقاض أنغامي!
تناثرتْ في شعاب الحلم أوردتي
وفي دمائي نمَت أشجار أوهامي!
مدائنُ الفجر لم تُفتح لقافلتي
والخيل والليل والبيداءُ قُدَّامي
والسيف والرمح في كفَّيَّ من زمن
لكنني لم أغادرْ وقْع أقْدامي!
وفي انكسار المرايا حُطِّمت سُفني
وفي انحراف الزوايا غاب إقدامي!
وغبت يا وطناً ضاعَتْ هويَّتُهُ
والأرضُ تنْبُشُ عن أشلاء أقوام!
فالدلالة هنا فى هذه القصيدة تجسد ملامح خاصة للغربة تتعلق بحالة الضعف والشتات التى يعيش فيها الشاعر المعاصر، فالصورة حائرة بين استجداء الحلم والتاريخ ومصارعة الواقع واستشراف المستقبل، مما يجعل الحضور غير مكتمل والوطن بعيد غائب حائر بين الواقع وتدنيه وبين تلمس الحقيقة، وقد لجأ الشاعر إلى استلهام التراث البطولى والنفسى كوسيلة تحقق له الأمان وتسعى لبناء خيال جديد ينعم فيه بالوجود ويشعر فيه بالوحدة، والمتأمل فى كلمات وألفاظ الشاعر:- معلقٌ بين تاريخي وأحلامي -  وواقعي خنجرٌ - أنقاض أنغامي! -  تناثرتْ .. أوردتي -  وفي دمائي نمَت أشجار أوهامي! – إن هذه الصورة التى خلت من التفاؤل والأمل وتسعى لتحقيق العزلة وتبعث على القلق تعد إشكالية عامة فى الحياة التى خلت من البطولة فى مدائن الفجر، وأصبح الواقع خاليا من الدلالات التى تستنهض الهمم، وتلك من مظاهر الغربة والاغتراب النفسى داخل الوطن وداخل النفس والذات، وفى المقابل تجد الصورة الأخرى فى النص حيث تجد المحاولة فى الخروج من هذه الدائرة الاغترابية واللجوء إلى الرمز فى الدلالات التصويرية التى تحملها كلمات وجمل الصورة  " مدائن الفجر" - والخيل والليل والبيداءُ - والسيف والرمح في كفَّيَّ - لم أغادرْ وقْع أقْدامي - حُطِّمت سُفني.. وهى ألفاظ تدل على يقين الشاعر بعزيمته وقوة بصيرته وشعوره بالمجد القادم، مما يدل على أن الغربة هى غربة الوطن وليست غربة الشخوص، وأعتقد أن ملامح العصر كلها تؤكد ما قاله الشاعر فى نهاية الصورة التعبيرية حيث قال : 
وغبت يا وطناً ضاعَتْ هويَّتُهُ
والأرضُ تنْبُشُ عن أشلاء أقوام!
فالضياع والنبش - صورتان رمزيتان لهما من الدلالة الحسية والمعنوية ما يجعل الصورة دليلا على تأكيد الغربة النفسية التى تعد من سمات العصر، ونسبة الضياع للوطن - والنبش للأرض، والبحث عن المعادل النفسى يفسر كثيرا من ملامح هذه الغربة الوطنية النفسية، فالحنين ليس للوطن الحالى وإنما الحنين للوطن المفقود الذى عرفه الشاعر فى دفاتر الذكرى وفى أمجاد البطولات .
وإذا انتقلنا لتجربة أخرى من تجارب الشعراء المعاصرين نجد الغربة والإحساس بالتلاشى والوحدة هى مكونات التجربة، وأن الحنين ليس هو المعادل الموضوعى فى النص، وإنما الرغبة فى الإصلاح ومصارحة الواقع والكشف عن وجه الحقيقة وغياب الأمن وانتشار الفزع والخوف من مكونات الاغتراب كما جاء فى قصيدة الشاعر محمود الديدامونى " الحلم وأفاق الغربة " يقول الشاعر :
ماذا أكتب والجدب سحاب
ماذا أكتب والوطن ملئ بالأغراب
وأنا الحر أغرد أشدو وحدى
مشدودا حولى أسوار تلثم أسواراً
وسياج من نار يرقب إشعارا
ماذا أكتب حين تموج بقلبى أمواج الجدب
الكون فسيح جداً جداً
لكنى .. لا أملك من هذا العالم شبراً
إن الشعور بالقلق والتدنى والتلاشى والإحساس بالوحدة مكونات الصورة فى المقطع السابق فالحرية مفقودة والحسرة سياج يسيطر على فضاء الشاعر، والغربة واقع يحيط بالشاعر ولايغادر النفس والعزلة من دوافع الواقع المحاصر، وهنا ترتبط الدلالات بحالة إسنادية تتعلق بالشاعر مباشرة دون للجوء للرمز ويقول فى مقطع أخر :
يا فاتنتى الكون ملئ بالأحرار
وأنا الحر الحر المسكون بأهاتى
فتروح إلى الخوف حياتى
أسلم وجهى للحزن وللعبرات
تصير صلاتي يا قبلة قلبى وفراتى
الجدب الجدب ما عاد يفيض النهر حياة
وهنا يؤكد الشاعر على تداعيات الاغتراب وانحساره فى فقد الحرية والعيش فى ظل الخوف وفى ظل الحزن والكآبة والعزلة الشخصية ولايقف الشعور بالاغتراب عند هذا الحد وإنما يصبح حالة عامة تفقد الحياة استمراريتها وتوقفها كما جاء فى قوله : ما عاد يفيض النهر حياة – والاستعارة تؤدى وظيفة دلالية حيث تنسب الحياة للنهر مجازا وتنسب الجدب للصلاة – ويقف الشاعر فاقدا ملامحه الأصلية مستشرفا الموت كمرحلة تابعة للاغتراب .
وعند الشاعر محمد سالمان  تصير الغربة محنة وتتحول الدلالات إلى حالة من الفقد والضياع وتصبح  المشاعر واهنة ولم يلجأ الشاعر إلى التلميح بقدر ما كان اعتماده على التصريح والمباشرة يقول الشعر فى قصيدته " غريب" :
إنى الغريب ... وكل شىء هاهنا دوما غريب
نتنفس الليل الكئيب ونأكل العشب الوضيب
آهاتنا كلمى يمزقها المغيب والقلب أدرك أننا قتلى...
تتساقط الكلمات من فوق الشفاه
تتراكم الأحزان ... تنتحر الحياة
آه من الأيام آه ... ولكم بحثت لعلنى أجد الصلاة
لكنها تاهت... وكَلّ الصبح بحثا عن هداه
لكن عساه ...!! إنى الغريب ... وكل شىء هاهنا دوما عجيب
تتناثر الأيام – والأيام حبلى – تحت أقدام الألم
جرحى تموت بلا ثمن وتدوسنا قدم الزمن
صرعى نئن من الكفن
فالليل يشهد إننا يقظى تداعبنا المحن
إنى الغريب ... وكل زرع هاهنا يهدى الشجن ...!!
إن انطلاقة النص فى دلالته الأولى تفصح عن تصريح مباشر بحالة الاغتراب التى يقرها الشاعر ويؤكدها بواسطة الجملة الاسمية وثباتها عند اغتراب كلى للنفس ومحيطها الداخلى والخارجى، ويتعدى هذا الاغتراب الوصفى التقريرى ليشمل العالم الذى يحلق فيه الشاعر، وهو يحاول أن يثبت ذلك من خلال المزاوجة بين العالم النفسى المعنوى الداخلى، والعالم الحسى الخارجى، وقد جاء ذلك فى قوله : إنى الغريب ، وقوله : كل شىء ..، والملاحظ أن حالة التقرير والإثبات فى الجملة الأولى، امتدت لتشمل عمومية الجملة الثانية، مما جعل المزاوجة بين المعنوى والحسى، هى نوع من المعالجة النفسية التى يستبطن فيها الوجود من رؤية النفس للواقع أوالعكس، وذلك على سبيل الجمع بين دلالات تصويرية تعد منطلقا للتعبير، وتوصيفا لتشريع علاقات إنسانية يمكن أن تقوم مقام الوصف التصويرى .
من هذه العلاقات حالة التنبيه والتأكيد التى تدور بين الكناية والتقريب لدلالات الشخصية، والإشارة إلى محيط مكانى خاص مبهم تتحقق فيه معالم الغربة النفسية، وقد أدى الإبهام إلى تغييب الإحساس بالغربة المكانية، وجعل النفس هى مدار الألم والاغتراب، وهى المكان الذى قد يبعث الشعور ويسيطر على دلالات الواقع فى غربته وفقده الارتباطات الوجدانية التى هى من أصل العلاقة التى يقوم عليها الإحساس، تأمل معى المرجعية الموضوعية فى تعبير الشاعر: وكل شىء ها هنا - فى عموميتها وما تبثه من دلالات تتعلق بتأثيرات الواقع الخارجى، وترتبط بتاكيد الاغتراب مقابل رحيل الأمان، ليس فى مخرجات المحسوس وإنما فى ارتباطات الوجدان وما يمكن أن يقدمه من علاقات معنوية، قد فقدت تأثيراتها ليس على المستوى الزمنى الآنى بل هى ممتدة امتداد الدلالة النفسية الأولى التى انطلق منها النص، وأكدتها الاستعارة المكنية التى شاعت فى الصورة النفسية الأولى .
ولعل التوصيف الزمنى الذى جاء فى دلالة كلمة " دوما " بما يقدمه من مزاوجة فى الدلالة، النفسية والحركية، يؤكد على أن النص يقدم المزاوجة النفسية بين المحسوس الخارجى والمعنوى الداخلى، فى صورة زمنية ساكنة تتشابه مع حال الجملة الاسمية، ومع حال الصورة النفسية الأولى، كذلك إيراد التصريح بالغربة، فى كلمة واحدة ذات دلالة مشتركة، تجمع بين الشاعر فى صورته النفسية المعنوية، وخارج النص فى صورته التى تشير إلى تعانق الواقع مع النفس، يعطى دلالة حقيقية على أن الغربة بمفهومها المعاصر، لاتتعلق بالمكان فحسب، وإنما هى غربة النفس مع المكان مع طموحات الواقع، مع فقدان الخروج من هذه الحالة، أو المناداة بفتح طاقات من الحرية الإنسانية فى أوقات لم يعد فيها الاغتراب شكلا ، بقدر ماهو رؤية وقراءة للواقع والحياة الخارجية، تأمل التركيب الدلالى لهذه الكلمة: " الغريب " والمرجعية الإسنادية، وكذلك التركيب الدلالى لكلمة : " غريب " كمعنى تالى للعلاقة الأولى المكررة، وكنتيجة حسية منطقية لحالة الغربة التى بدأت مع مفتتح الصورة النفسية الأولى ومرجعية إسنادية تختلف مع حقيقة المرجعية للمعنى الأول، والعلاقة المعرفية فى الأولى، والتى يقابلها علاقة إنكارية فى الثانية، تتواصل مع رغبة الشاعر فى رصد ومعالجة الاغتراب بواسطة النفس، وتشير أيضا إلى الدلالة النحوية المتضمنة المعنى الخبرى الكائن فى الكلمتين عند التقريب الأسلوبى النحوى .
وينفتح النص فى صورته النفسية الأولى على تفسيرات متعددة للنفس ومظاهر اغترابها، وتبدو الدلالات البيانية هى منعرج التعبيرعن النفس، وإحدى علاقات النص، والشاعر هنا يقدم وصفا نفسيا يفسر فيه كثيرا من تراكمات الغربة والاغتراب، فى محاولة تمهيدية لاستبطان الوجود من خلال النفس المصورة، فى خطوات من التعبير الوجدانى يقول : نتنفس الليل الكئيب وانشطار الدلالة التركيبية للمعنى المجازى، يجعل الصورة الزمنية تنشطر هى الأخرى إلى عدة أقسام أهمها صيغة الجمع التى تسمح بوجود نفوس أخرى ينوب عنها الشاعر فى التعبير ويحاكيها محاكاة تمثيلية، تقف عند حدود عامة وخاصة، تمتد بواسطة زمن الفعل المضارع، إلى خارج النص لتشمل الواقع والمستقبل، وتوظيف الصورة الليلية الزمنية كمتنفس موصوف، يتيح الدلالة التى يمكن أن تنقل المعنى من حقيقته إلى الرؤية المجازية، المستقرة فى دلالة "الكئيب" التى لاتختص بالحزن فقط ، وإنما تتعدى بلاغيا ومعنويا لتصف النفس فى حالة انكسارها واغترابها.
وقد لجأ الشاعر إلى استعمال كلمات فى سياق غير ملائم ، للفعل والفاعل وحالة الاغتراب النفسية التى لاتتوافق مع الدلالة المباشرة للمعنى، مما يدل على أن المعنى الأول للتوظيف اللفظى ليس من دوافع التصوير لدى الشاعر، لأنه لايفى بالدلالة المطلوبة، ومن ثم فإنه يشير ضمنا إلى معنى المعنى، وهو الذى يتيح علاقات جديدة من التشريح للاغتراب والتفسير النفسى للصورة، التى قامت عليها الدلالة الداخلية للفكرة التعبيرية من ذلك قوله : ونأكل العشب الوضيب وقوله : آهاتنا كلمى يمزقها المغيب إن الدلالة الأولى لحقيقة التعبير الحسى لوظيفة الطعام، التى وردت فى صيغة الجمع بدلالة زمنية مستقبلية مستمرة، وارتباطها بالعشب، يشير إلى انحرافات وظيفية ليس للمعنى فحسب وإنما لتدنى الشعور، وانكسار النفس، وإشارة إلى الاغتراب الذى واكب حسرة ومرارة امتدت للطعام، الذى انحسر فى العشب، الذى لايتوافق مع طبيعة المسند إليه، وكذلك وصف العشب بـ " الوضيب"، على غرابتها واستهجانها، يؤكد على انحراف المعنى الأول والتركيز على معنى المعنى، الذى يقف عند تفسير الصورة النفسية فى مظاهرعدة .
ويواصل الشاعر تفسيرها فى انتقاله من المحسوس إلى المعنوى ، الذى يتضمن التعبير والتصريح فى تعبيره بآهاتنا ليست كما هى فى خارج الغربة، واستعمال الفعل "يمزق" ومرجعية الضمير على زمن المغيب، يربط بين الصورة الكلية التى بدأت من توظيف " الليل " كإطار عام، يشير إلى الوحدة الزمنية فى الصورة، ويشير إلى أن الشاعر يبنى رؤيته الزمنية فى رمزية "الليل" التى تتوافق مع ظلمة الغربة .
وتتخذ الغربة منحى أخر فى تجربة الشاعر الوجدانى عماد قطرى حيث تسير فى اتجاه العاطفة وتنمية الوجد والبحث عن مرفأ ترسو عليه الحياة، والشاعر بصفته يبحث عن الحب والقرار فهو غريب هائم تحاصره المعاناة النفسية والشخصية، فتجاربه الوجدانية تنبع من حالة الاغتراب ومن دلالة البعد والهجر للوطن والمحبوب الرمز الصريح والمباشر، والصورة لديه عبارة عن دلالة حوارية تتقاذفها الأحداث والصراعات فتارة تراها نابعة من حالة القلق وتارة أخرى تراها تسير فى طريق العشق، والغربة لديه شعور ومطاردة لايغادرها الإحساس والتعبير يقول فى قصيدته " مسافر غريب" :
حبيبتي أنا الغريب لم أنم على الغياب
لم أكن مشردا ولم أكن مهادنا لدمعنا
فصنته بشدّة ولم أعانق البوار
حبيبتي أنا الغريب لم أجد على الشطوط  نخلة
ودوحة ودفقة من الندى
ولم أجد حبيبة تضمني وتغزل المنى
وتعلن النهار فهل أعود للمدى
أودّع الندى أم الهوى سبيلنا
ومالنا سوى الفؤاد دوحة نؤمها
ونهتدي بنورها وتصبح المزار
فى هذه اللوحة التعبيرية نلاحظ الحضور المباشر للشاعر وخطابه الحوارى الموجه نحو الحبيب الرمز، ونجد أن الأسلوب جاء فى دلالات الجزم والحسم والإقرار ومن ثم الثبات عند متخيل اغترابى خاص مما يجعل من الغربة ملمحا واتجاها تعبيريا يؤدى وظيفة حسية فى النص، ويؤكد أن الشاعر المعاصر يعيش فى دلالات وجدانية تتعلق بصفة وسمات الواقع الذى ينطلق منه، وهو واقع الغربة التى تسيطر على حواسه فتحيل الحب والعاطفة إلى مظهر من مظاهر الوحشة بسبب الاغتراب والبعد عن الأمان، وقد زاد من حالة الاغتراب أن الشاعر قد لجأ إلى أسلوب النفى مقترنا بالاستفهام فى قوله : ولم أجد حبيبة تضمني وتغزل المنى / وتعلن النهار فهل أعود للمدى / أودّع الندى أم الهوى سبيلنا – فكانت الحيرة هى المظهر الذى جسد المشهد الشعرى الاغترابى فهو هائم محب لكنه لايعرف كيف يجد الموطن الحقيقى الذى يحيا فيه بعيدا عن العزلة والقلق والتمرد على الذات.. يقول الشاعر فى مقطع أخر :
مسافر لقلبك الحبيب يا حبيبتي
فأعلني لخطوي الغريب مرفأ
وغردي وعاودي فإنني تهزني حلاوة اللقاء
أرتجي بحضنك القرار فهل بحضنك اليمام
والحقول والنخيل والندى يضمنا فنسفك الدماء
نفتدي قلوبنا فنرتوي وترتوي ضلوعنا
ونهتدي لقمة الأوار فتزهر الفصول والحقول
والديار عزة وتحمل المنى وتبعث الهناء والسرور
والرضا برحلة الغريب إذ يئوب للفؤاد
والعيون معلنا بأنك القرار
إن الحب والعاطفة والهوى دلالات ينشدها الشاعر ويبثها فى الصورة محاولا إسقاط الشعور بالاغتراب على فقده لفضاء الذات فى ظل هذا الغياب الذى جسده الوطن وحققته الحالة الشعورية فى التجربة، والمتأمل فى دلالات المشهد الاغترابى يجد أن متخيلات النص تمتح من رؤية لاتفتقر للأمال والطموحات بقدر ما هى تواقة للحب فى ظل البهجة والسرور وفى وضوح الوجدان، وإذا تأملنا قوله فى مفتتح الصورة :
مسافر لقلبك الحبيب يا حبيبتي
فأعلني لخطوي الغريب مرفأ
مقارنة بقوله فى ختام الصورة والنص :
تحمل المنى وتبعث الهناء والسرور
والرضا برحلة الغريب إذ يئوب للفؤاد
والعيون معلنا بأنك القرار
نجد أن حالة الاغتراب محققة فى وجدان وضمير الشاعر وأن الرغبة فى العودة مقترنة بالهناء والسرور والرضا عند استقرار الفؤاد وإيابه وعند امتلاء الفضاء بالنور الذى تمثله العيون برمزيتها ودلالتها، والمقابلة بين الصورتين الأولى والثانية وما بينهما من مسافات شاسعة من الوجد يمكن الوقوف على كثير من ملامح التجربة لدى الشاعر فى اغترابه وشعوره بذلك ورغبته فى العودة فى ظل موكب الفرحة والبهجة والسعادة . 
وفى النهاية فإن التعبير عن الغربة والاغتراب عند الشعراء المحدثين لم يتبلور فى اتجاه  واحد منذ البداية، لكنه تطور من الحديث المباشر إلى التصوير الدقيق للنفس، ولم يستوعب المكان كأحد علامات الغربة إلا قليلا وفى العصر الحاضر توازت الغربة مع حضور عوامل الحس والحرمان والتضور من تقلبات الحياة بطبيعتها على المستوى السياسى والاجتماعى والأخلاقى والنفسى، وعلى المستوى المعنوى والحسى، مما يجعل عملية المقارنة بين الموضوع الشعرى قيد التحقيق، ويجعل الموازنة بين تجربة الغربة عند شعراء الجيل أمر تفرضه الحاجة إلى نتائج بحثية نقدية، نقف بها على حقائق ووقائع تاريخنا المعاصر، ونستطيع أن نكتشف عمليات التمييز الإنسانية التى اجتاحت عالمنا المعاصر، فى ظل التحولات التى شهدتها بلادنا .
ودلالة فنية أخرى هى أن النص المعاصر يفرض حضورا تمثيليا لصورة الغربة، وتوصيفا خاصا جدا لهذه الغربة كمصدر من مصادر التجربة لدى الشعراء، وكذلك توفيقا بين تماهى هذه الغربة وانفعال الشاعر بها فى النص على عدة مستويات منهجية ونفسية وفلسفية، خاصة عند بحث الصورة الموضوعية والوقوف على تداعياتها وأركانها بصفتها قلب النص وفحواه وبؤرة التجربة، والمتأمل يجد أن الغربة انفعال موضوعى دائما ماتشكلت منه تجارب الشعراء على مستوى المكان والنفس والشعور وفقدان الحرية وعلى مستوى الذات وتميز الواقع الإنسانى الذى ينطلق منه الشاعر، وتلك خصوصية تعبيرية نفسية وفلسفية، تحتاج إلى درجة عالية من التأمل فى النص وسيرة صاحبه، ومن ثم تحليل دوافع التعبير ودرجة الانفعال الشعورى لديه .
ونستطيع القول بأن الغربة وتداعياتها فى الشعر المعاصر تمثل اتجاها خاصا يضم العديد من الرؤى والأفكار وهى بتكوينها تنفتح على أغراض عديدة من التعبير وعلى اتجاهات النص المعاصر، ويمكن من خلال رصد ملامح الغربة أن نقف على قراءة جديدة للشعر والإبداع عامة، خاصة أن الاغتراب أصبح شعورا وإحساسا نفسيا يحاصر الشخص ويحيطه بالعديد من الإشكاليات العامة والخاصة، ولم يعد كما كان فى السابق اغترابا مكانيا فقط وأعتقد أن ذلك كله ينعكس على تطور النص واستقراء التجربة لدى الشعراء، ويمكن ملاحظة التحولات الفنية والموضوعية فى النص الاغترابى ورصد معالم هذا الاغتراب فى ظلال التجربة والشخصية المعاصرة والخروج بنتائج تعكس مدى تأثير الغربة فى الشاعر وفى الحياة المعاصرة، ويمتد هذا التأثير على النواحى الجمالية والفنية فى الصورة التعبيرية التى تشمل متخيلات التعبير فى عصرنا الحاضر ليشمل البناء والموسيقى والوحدة الموضوعية واللفظ والمعنى ومحاولة استحداث أنماط من التصوير مختلفة شكلا ومضمونا .
الدكتور
نادرعبدالخالق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق