الخميس، 3 سبتمبر 2009

أغنية الدكتورحسين على محمد قراءة وتحليل فى ضوء الصورة والتجربة للدكتور نادر عبدالخالق

أغنية الدكتور حسين على محمد
قراءة وتحليل فى ضوء التجربة والصورة
للدكتور نادرعبدالخالق
أغنية باتساع الجرح
شعر: حسين علي محمد
غنيتُكَ يا وَطنِي
يا جُرحاً متسعاً في أُفقٍ يزعهُ الفلاحُ نخيلاً ولحونا..
تنسابُ بأذنيْكَ عذاباً وأنينا
يا وردةَ حُبٍّ يحملُها العاشقُ
مُكتئباً مطعونا،
أرحلُ في صحرائكَ صوتاً مبتئسا،
من أناتِ يمامكَ في الحقلِ إلى أسرابِ النورسِ
تعدُ بمطرٍ
يأتي من ناحيةِ البحْرِ
وتشهدني أحملُ أكياسَ طحينٍ
للفقراءِ المحرومينْ
يا شيْخاً في الخمسينْ!
مازلتُ أحبُّكَ طِفلاً تقتحمُ العَالمْ
بالنرجسِ والنسرينْ
سَأغنيكَ لحونَ الخلد مليا
وأعيدُ مباهجكَ لتشرقَ روحكَ
ذات سقوطٍ
حاصرنا
في أغنية شتاء المحزونين.‏ الزقازيق 13/11/1980م





العنوان :
جدلية العنوان عند الشاعر حسين على محمد تفرض تعاملا وقراءة من نوع خاص وذلك راجع أولا : إلى ما يمثله العنوان بالنسبة للنص ، حيث يحتوى العنوان نصا داخليا ، يفسر به النص الخارجى المتاح ، وثانيا : لأنه الواجهة الأولى التى ينفذ من خلالها القارىء إلى النص ، وثالثا وهو الذى يجب أن يلتفت إليه التحليل وتعتنى به القراءة ، ان العنوان فى ضوء الصورة ، يمثل فضاء خارجيا يشمل المرجعية والدلالة التى يمكن أن تؤخذ من هذه التركيبة المراوغة ، والتى تكتظ فى أغلب الأحيان بالعديد من الأشكاليات التعبيرية والبيانية التى تسهم فى بناء الصلة بين القارىء والنص .
وحتى يتحقق ذلك فإنه يجب أن نقف على الحقيقة النحوية التى نظم على أساسها النص المصغر العنوان ، والتى ستساعد كثيرا فى توضيح الدلالات والرؤى النفسية والاجتماعية ، التى يمثلها هذا النص .وكذلك الصورة الخارجية التى يقف عليها العنوان وهى تمثل ذات الشاعر والنص والأبعاد الاخرى فى المجتمعات ، وبالتاى معرفة القضايا والأمور الدقيقة فى حياتنا ،وتلك مسألة مهمة جدا لايتوقف نتحها ، فى النص الأول المصغر العنوان ،أو النص الثانى الكبير الموازى .

التركيب اللغوى الذى ورد فيه النص العنوان :
أغنية باتساع الجرح
ولكى يتخطى القارىء هذه الصورة ، يجب أن يقف أمام كلمة " أغنية " بفضائها الممتد الشامل ، وتلك حالة ستسيطر وستفرض حضورها القوى على ذات القارىء وجدانيا وشعوريا فرحا وطربا ، ثم مايلبث القارىء أن ينتقل إلى فضاء متناقضا تماما حينما يصطدم بكلمة "الجرح " التى تحول الشعور مباشرة إلى النقيض ،وتجعل الحالة النفسية غير مستقرة فى الوجدان ، وفى النفس ، ولا ننس الهوة السحيقة التى لصقت با بالجرح وجعلته غير طبيعى ، ممتدا مع هذا التعبير الفضائى الواسع الرؤى والأبعاد ، مما يجعل العلاقة الناتجة عن هذا التركيب لا يمكن أن تتعين فى المعنى الدلالى المعروف للأغنية ،وماتفعله فى النفس والشعور ، وتبقى الدلالة مقصورة على الجرح فقط ،ومن ثم تتراجع الأغنية ،ويبقى صداها المتعلق بالجرح فقط ، وهنا تصبح الصورة الخارجية التى يفرضها العنوان وعلاقاته هى الأكثر حظا وحضورا ويترتب عليها ، دخول النص واجتياز عتبته الأولى والعبور إلى منتهاه محملين بهذا التأثير المباشر للصورة الخارجية ، التى تعكس بطبيعتها صورة مجتمع ،وصورة حياة وقضايا ومشكلات ، يصبح حصرها والحديث عنها أمرا تابعا للنص وصورته الكلية العامة الداخلية والخارجية .
والصورة الخارجية للعنوان ، تتصف بالمراوغة وعدم السكون ، وذلك راجع إلى العلاقات التى تنشأمن ضرورة الصورتين إلى بعضهما البعض وأنهما من التلازم والأهمية ، يمثلان الموجب والسالب ، لكن يصعب تعيين الصفة التى يختص بها كل منهما ،وهذا ما سيبدو فى التحليل اللغوى الذى سننتقل إليه .

والمكون اللغوى هنا قائم ومحقق بداية دون عناء ، إذا اعتبرنا ان العنوان كاملا مبتدأ والنص هوخبره المتمم له الذى تتحقق الفائدة النحوية الخبرية بتبعية كل منهما للأخر كما اشترط النحاة ، وهذا التاويل يعطى دلالة هامة على مستوى الصورة الخارجية ، التى تفرض عدة ضوابط يجب أن تتحقق فى العنوان منهاالدلالة التىتعد مرجعية للنص ،وتكون جسرا بينه وبين الواقع الذى يمثله ،وكذلك الصفة والعلاقة التى تعود على الشاعر ذاته بصفته المنتج الأول لدلالات النص ،والمركب لعلاقاته ، والذى يضفى على الصورة من ثقافته ، فتكون أكثر تمثيلا للواقع والحياة ، أو تكون صورة قريبة تقليدية ، فيها محاكاة أكثر منها رؤية تطورية ، من هنا فإن العلاقة بين العنوان والنص علاقة ترابطية لا يمكن لأحدهما أن يتخلف عن صاحبه ، ولا يمكن للقارىء أن يستعيض بأحدهما عن الأ خر .

والعلاقة التحليلية الأخرى والتى تقوم على التطبيق هى قراءة الصورة النص على اعتبار أنها تحتاج إلى مكمل ، لأنها ناقصة فى ذاتها ، لايمكن ان تعطى مدلولا دون الوقوف على تقدير المحذوف ، و إنابة من يحل محله .
والنظر إلى العنوان بهذه الطريقة تفرض قراءة تأولية أولا ،وتفرض رؤية جديدة فى ضوء التقدير الجديد الذى يمثل علاقة لا يمكن تعيين فحواها ، إلا بهذه الطريقة

اغنية ـــــــــــ علاقة شعورية نفسية
الجرح ــــــــــــ علا قة معاكسة للعلاقة الأولى
اتساع = علاقة وسيطة تتعين اهميتها عند إسنادها
ومن هنا فإن القراءة التأويلية الجديدة ، تصبح رؤية متطورة تخص باطن النص
وهى : هذه أغنية باتساع الجرح
هذه :مبتدأ . خبره : أغنية باتساع الجرح
وقراءة أخرى يفرضها هذا التحليل والتقدير :
" هذه أغنية باتساع الجرح = يتردد صداها ، ويتكرر لحنها "
" ويتجدد سماعها وتأثيرها "
وعلى ذلك فإن القراءة التى يفرضها تصبح أثيرة هذا التأويل ،وقرينة تلك الصورة التى أصبحت أكثر ارتباطا بالصورة الخارجية للنص والتى يتعلق عليها أمالا كبيرة فى رؤية الواقع والعالم الذى يمد الصورة والنص والشاعر بالصور والتراكيب الخاصة، والمتأمل فى مجموعة الإضافات التى أضيفت على النص والصورة والضمير النفسى للشاعر ، يجد أنها وردت فى صيغة المضارع الدائم الرؤى والتصوير مما يجعل هذه الحالة العميقة من الجرح ممتدة ، لاتقف عند حد معين او زمن خاص، وهذا التأويل القائم على استعارة الفعل المضارع ،يمكن أن يستعاض بالزمن الماضى نيابة عنه خاصة أن العملية تقديرية وليست على أصلها ويمكن كذلك استدعاء الزمنين فى آن واحد مما يجعل ، العملية التأثيرية تتعلق بزمنين وحالين وحياتين وعالمين أحدهما مضى ، والأخر ممتد باقى .

وقراءة الزمن الذى صرح به الشاعر فى فضاء النص الموازى يقف على دلالة أن هذه التجربة كانت فى مرحلة متقدمة من حياة الشاعر ،وليست حديثة أو تمثلها قريبا ولذلك بعد يجب التنبيه عليه ،حتى يمكن الوقوف على مدى تطور الصورة لدى الشاعر ،أوثباتها عند منظور ثابت وسيتضح ذلك فى نهاية الدراسة ،عند تحليل التجربة ،والوقوف على مصادر الصورة ومدى ارتباطها بالتجربة ، وتمثيلها لنفس المبدع والمتلقى .


النص :
غنيتُكَ يا وَطنِي
يا جُرحاً متسعاً في أُفقٍ يزرعهُ الفلاحُ نخيلاً ولحونا..
تنسابُ بأذنيْكَ عذاباً وأنينا
يا وردةَ حُبٍّ يحملُها العاشقُ
مُكتئباً مطعونا،

يواجهنا المقطع السابق بتجربة ورؤية بكائية تتجاوز حدود الغناء لتصل إلى التحليق فى آفاق الرثاء المباشر ، ولأن الإسناد هنا يقوم على ثنائية الوطن والشاعر فإن العلاقة الخارجية للشجن النفسى ، تبدو واضحة تصب فى عمق التجربة الشخصية أكثر من الدلالة الوطنية التى يتوارى خلفها الرثاء الوطنى ،وهنا يحتدم الصراع ويصبح واقعا مفروضا،بين ذات الشاعر المتطلعة إلى تحقيق مكانة ووجودا شعريا مغايرا ، وصنع حوارا وطنيا يتوافق مع رؤية الشاعر ، فى تلك المرحلة التى تشكل تجربة منفصلة ، عن التجارب التى جاءت بعدها ،وبين الفن والشعر الذى يسير وفق رؤية فطرية ذاتية متطورة ، حتى أن أوجه الصراع ومظاهره هنا لم تصطدم بذكر الألام الناتجة عن الرثاء ،الذى جاء طربيا كما صرح بذلك الشاعر .
والمتأمل فى قول الشاعر:
ياجرحا متسعا فى أفق يزرعه الفلاح نخيلا ولحونا
وتلك أولى مراحل البناء النفسى للتجربة داخل القصيدة ، ومرحلة من مراحل التقديم للصورة المنعكسة عن التجربة المركبة ، والعلاقة هنا تمتد بداية من العنوان ، فى نفس الكلمات ، مع اختلاف فى التوظيف والتشكيل فالجرح الواسع الممتد ،ليس إلا الوطن ،والمزاوجة بين الجرح والوطن تقوم على النتيجة التى ستنبعث من الصورة
فى أفق يزرعه الفلاح نخيلا وشجونا
حيث تتأكد العلاقة بين الصورة والتجربة فى الرؤية المنطقية الممتدة من الجرح المتسع الذى تشكل افقا وفضاء يشمل الوطن ويتناسب منطقيا مع الاتساع الكبير الذى يتطابق مع الوطن ، ويتجلى وضوحه أكثر فى النتيجة التى لا تقل إدراكا وأهمية حينما يتحول هذا الأفق إلى حقول من النخيل ، وإلى قصائد وأغانى ولحونا على أيدى الشاعر الذى ناب عنه الفلاح ، الذىيؤكد حضوره الرؤية الأولى للصورة من حيث التناسب مع حالة الاستدعاء الوطنية ، ويؤدى أسلوب النداء هو الأخر حالة من التركيب النفسى فضلا عن عملية التحويل التى قام بها فى محيط الصورة .
والنتيجة التى وصل إليها الشاعروالتى تتعلق برؤيته وتعبر عن فجيعته فى وطنه هى
تنسابُ بأذنيْكَ عذاباً وأنينا
وتلك صورة تغوص فى عمق الدلالة النفسية الشخصية أولا ، وتعطى ملمحا لغويا لا يمكن تجاوزه على مستوى التعبير ، حيث تاتى الا ستعارة فى الفعل " تنساب " لا لتصور موقفا شعريا فحسب وإنما لتعبر عن حالة من الصراع الدائم بين اللغة ، والتجربة الشعرية ، والواقع ، وحرف الجر الذى يعين الظرفية المكانية ويجعل التحديد عن طريق الأذنين هو حصارا ومظهرا يتجلى فى عذاب وأنين لم يرقى إلى حد الإعلان الصريح المباشر ،وأعتقد أن تلك مواصفات الشاعر ، التى خلعها على الوطن .
وكذلك التركيب التالى المزدوج الدلالة والذى يعد تكرارا مباشرا للحالة السابقة ، لكنه هنا يأخذ ملمحا عاطفيا وجدانيا يقول الشاعر :
يا وردةَ حُبٍّ يحملُها العاشقُ
مُكتئباً مطعونا،
والأسلوب الذى وردت فيه الجملة الشعرية هو نفس الأسلوب السابق النداء الذى يجعل حالة القرب محققة ليس فيها تكلف ، ومما يؤكد على أن الشاعر يبكى نفسه ويعبر عن هموم ذاتية تعود على الأخرين أن الوطن وردة حب يحملها العاشق لكنه مكتئبا مطعونا ، والأكتئاب والطعن هنا حالتان من التصوير المباشر الصريح الذى يعلن عن تردى كبير ليس لذات الوطن بقدر ماهو فعل حقيقى وقع على إنسان هذا الوطن .
والصورة الحركية التاية تفصح عن هذا الفعل المتردى يقول الشاعر :
أرحلُ في صحرائكَ صوتاً مبتئسا،
من أناتِ يمامكَ في الحقلِ إلى أسرابِ النورسِ
تعدُ بمطرٍ
يأتي من ناحيةِ البحْرِ
وتشهدني أحملُ أكياسَ طحينٍ
للفقراءِ المحرومينْ
وعملية التحويل هنا لم تختلف عن السابق حيث يقوم التصوير بأداء وظيفة نفسية تبدو متحركة فى مظهرها المعتمد على الفعل الضارب فى المستقبل لكنها تأخذ شكلا معنويا يتحقق به التحويل من الحسى إلى المعنوى من الحركة إلى السكون إلى الوصف الداخلى الدقيق للمشاعر التى تشكلت بفعل الهم الوطنى .
والشاعر هنا لا يقف عند حدود الغناء الرثائى لا يتجاوزه ، بل يتعدى ذلك إلى الحديث عن المحرومين والفقراء وهوحديث مقرون بآلام الحاجة والفعل هنا لا يقف عند حدود فاصلة بل يسير وفق حالة من التصوير الذى جاء ممزوجا بأشكال تعبيرية حركية وبصرية ،تمزج بين الفعل الخارجى والأثر النفسى .

يا شيْخاً في الخمسينْ!
مازلتُ أحبُّكَ طِفلاً تقتحمُ العَالمْ
بالنرجسِ والنسرينْ
سَأغنيكَ لحونَ الخلد مليا
وأعيدُ مباهجكَ لتشرقَ روحكَ
ذات سقوطٍ
حاصرنا
في أغنية شتاء المحزونين.‏
المتأمل فى سياق هذا المقطع يدرك أن عملية التحويل التى دائما ما يؤديها الشاعر بيسر وسهولة قد جاءت مركبة هنا وتلك حالة من حالات الإبداع التى يتميز بها الدكتورحسين ، فالأمل هنا مظهرا من مظاهر التحول الذى يعود بالنص جملة وتفصيلا إلى حالته الأولى التى انطلق منها ،والتى تضفى على تجربته مصداقية فى الشعور والنقل ، ولا تقف عند حدود التعبير المباشر بل تتعداه ،ورغم مافى الصورة من بكاء وأنين إلا أن هناك املا خافتا يبدو من محاولة الشاعر فى استعادة الحياة من جديد تأمل معى قوله:
وأعيدُ مباهجكَ لتشرقَ روحكَ
وهوتعبير وتركيب لايقف عند حدود النص بل يتعداه إلى وصف الصورة الخارجية التى يسعى إليها الشاعر فى تجربته ، وإن كان هذا الوعد قد قرنه الشاعر بالسقوط ومحاصرته فى اغنية الشتاء ورمزيتها التى لا توحى بالبهجة والإشراق إلا أن حالة التركيب التى ورد فيها النص والتجربة وعبرت الصورة عن فحواه ومظاهره قد عكست الفعل والرغبة الخفية التى ينفعل بها الشاعر ويسعى إلى تحقيقها

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق